قهوة مرّة

نوفمبر 24, 2025 - 16:13
نوفمبر 24, 2025 - 16:20
 0
قهوة مرّة

 

كتبت عبير بلال شرارة  

في هذه المدينة… نحن المدينة...
في هذه المدينة،
تسير الشوارع بظهورٍ محنيّة، كأنها تعتذر عن وجودها.
الغبار ليس عرضًا عابرًا، بل مكوّن أساسي من هوية المكان،
الدخان يلوّن السماء بلونٍ رماديٍّ مزمن،
ورائحة القمامة… لا تأتي من الزوايا فحسب،
بل من كل ما تكدّس في الروح من لامبالاة.
في هذه المدينة،
الناس لا يمشون، بل يُساقون، بخطىً مثقلة كأن الأرض تمسك بأقدامهم لتمنعهم من الهروب،
كلٌ يحمل على ظهره فشلًا شخصيًّا… وفشلًا عامًّا،
زمنٌ يمرّ لا يتوقف، لا يعيد، لا يصفح،
وزمنٌ آخر في الداخل… متجمدٌ عند لحظة خذلان واحدة.
في هذه المدينة،
نحن نغلق أفواهنا جيدًا،
لأن الصوت جريمة، والرأي مخاطرة، والصدق انتحار.
نتقن فن النجاة من بعضنا البعض،
وننجو دائمًا إلى الخلف.
في هذه المدينة،
تتعلم كيف تمشي طويلًا من دون أن تنتبه أنك تدور في نفس الدائرة،
تتعلّم كيف تتقن الحذر حتى من الضوء،
وكيف تضع ابتسامةً مكسورة على وجهك كي لا تُتهم بالتشاؤم.
لكن مهلًا…
هل المدينة هي من خانتنا؟
أو نحن من سلّمناها مفاتيح أرواحنا؟
هل الغبار وحده من خنقنا؟
أو صمتنا الطويل هو من سدّ الهواء؟
في هذه المدينة،
الخراب ليس في الإسفلت المتصدّع فحسب،
بل في القلوب التي لم تعد تبالي،
وفي العيون التي اعتادت القبح،
وفينا نحن… حين اخترنا السلامة بدل الكرامة،
وحين قلنا: “ما إلنا دخل”… فدخل الخراب من أوسع الأبواب.
نعم، المدينة قاسية، متوحشة، صمّاء،
لكن كم مرة بكينا فيها من دون أن نحاول الصراخ!؟
كم مرة اكتفينا باللعن بدل المواجهة!؟
كم مرة مارسنا اللامبالاة وقلنا إنها “حكمة”!؟
في هذه المدينة…
لا أحد بريء.
لا المدينة، ولا نحن.
نحن من أطعَم القَتَلة،
وهنّأهم على جرائمهم،
ثم التقطنا معهم صورًا تذكارية لننشرها يوم الاستحقاق
نحن من تواطأنا باسم الواقعية،
صادقنا المجرم لأننا “لا نحب المشاكل”،
وباركنا الخراب… لأننا كنا جزءًا من حفلة الخراب
نحن من صافح القتلة كل صباح،
وابتلعنا دماء ضحايانا كقهوة مُرّة،
وأخذنا مكاننا بين الحاضرين في حفلات النفاق… من دون أن نغيّر الملامح
هذا الختام يوجِع من دون أن يصرخ،
ساخر من دون أن يضحك،
صادق من دون أن يعتذر.