البنية السيميائية وجماليات الأداء في مونودراما المضحكاني
مراجعة نقدية معمّقة لعرض المضحكاني للممثل مشعل العيدان، بوصفه تجربة مونودرامية تمزج بين الكوميديا السوداء والسيرة الذاتية والوعي الميتامسرحي، مع تحليل لبنية الأداء والصوت والحركة والسينوغرافيا، وإضاءة على قدرة العرض في استعادة تراث المونولوج العربي والاحتجاج على اندثاره.
كتب : سيد عبد الرازق
تنهض المونودراما، بوصفها أحد أكثر الأنماط المسرحية كثافة واختزالًا، على قدرة الممثل المنفرد على تحويل جسده وصوته وفضائه الداخلي إلى بنية درامية كاملة، بما يمثل اختبارًا قاسيًا لإمكانات الممثل، ومختبرًا يكشف حدود العلاقة بين الجسد والوعي والمكان والذاكرة. إنَّ هذا الشكل المسرحي الذي يضع ممثلًا واحدًا في مواجهة الجمهور مباشرة لا يتيح له الاتكاء على شركاء حواريين، بل يجعله مصدرًا حصريًّا للفعل والحدث والدلالة، ومن هذا المنطلق يمكن النظر إلى عرض المضحكاني للممثل مشعل العيدان بوصفه محاولة واعية لتقديم مونودراما تتقاطع فيها العناصر الجمالية والرمزية.
عند التمهيد النظري لقراءة العرض، لا بد من استعادة الأساس الذي تنطلق منه المونودراما، فقد رأى ريتشارد هورنبي في كتابه Drama, Metadrama and Perception أن المونودراما تمثل تكثيفًا للحضور المسرحي، وأن مركز الثقل فيها ينتقل من تعدد الشخصيات إلى تعددية الرؤى الداخلية لشخصية واحدة تحمل العالم داخلها. أما إيريك بنتلي في كتابه The Life of the Drama ، فقد اعتبر أن الممثل في المونودراما لا يجد شريكًا إلا الجمهور، وأن التوتر الدرامي يتولد من علاقة مكشوفة بين الممثل والمتلقي؛ حيث يصبح الوجود المسرحي ذاته موضوعًا للعرض لا مجرد وسيلة سردية. هذا التأسيس النظري يعين على فهم طبيعة التحدي الذي يواجهه الممثل في المضحكاني؛ إذ يتحمل مسؤولية بناء العالم المسرحي بكامله بالاعتماد على حركته وتقطيعات صوته وطريقة وقوفه داخل فضاء ينهض على الإيحاء أكثر مما ينهض على المحاكاة.
البنية الدرامية:
يتكئ عرض المضحكاني، بوصفه مونودراما قائمة على الأداء الأحادي المتشعب، على قدرة الممثل مشعل العيدان على بناء طبقات متراكبة من السرد الذاتي والتمثيل المتعدد، جامعًا بين الكوميديا السوداء، والاستعادة التاريخية لفن المونولوج العربي، والاشتغال على السيرة الذاتية للفنان في علاقتها بأزمة الفن واندثاره. يهندس العرض فضاء ثلاثي المناطق، وتقوم عليه ديناميات الصوت الخارجي، والميتا-ثيتر، والتقليد المسرحي، وتوظيف الاكسسوارات، وحركة الممثل، وتعدد الأصوات داخل جسد واحد.
من الواضح أن العرض يشتغل على ثنائية: الضحك بوصفه قناعًا اجتماعيًّا، والمعاناة بوصفها نواة الوجود الفردي، وهذه الثنائية تنتج خطابًا مسرحيًّا يزاوج بين التراجيديا الداخلية والكوميديا السوداء، في إطار بنية شبه اعترافية، ويبدو أن العرض يعتمد على تصاعد نفسي أكثر مما يعتمد على تصاعد حدثي، فالتحولات الشعورية تبدو أحيانا متقاربة، وهذا ما يجعل المونودراما تتخذ طابعًا اعترافيًّا؛ حيث يتحول الكلام إلى وسيلة لتفكيك الذات، ومع ذلك، فإن العرض كان يمكن أن يستفيد من انتقالات شعورية أكثر حدة، لأن التكرار الإيقاعي في بعض المقاطع قد يحد من قوة المفارقة الدرامية التي تمثل أساس المونودراما، وبالعودة إلى الطبقات الشعورية التي يبنيها الممثل، فإن الانفعالات تتدرج ببطء، وتميل أحيانا إلى التكرار، مما يقلل من حدة المفارقة الدرامية؛ فالمونودراما عادة ما تعتمد على لحظات انفجار عاطفي مفاجئة، أو انتقالات شعورية حادة؛ لأنها تحقق صدمة إدراكية يحتاجها المتلقي لتعويض غياب التفاعل بين الشخصيات، وفي العرض بدا أن بعض التحولات الشعورية متقاربة جدا، ما يجعل الإيقاع السردي في حاجة إلى تنويع أكبر، ومع ذلك، فقد حاول الممثل عبر الأداء الجسدي تغطية جزء من هذا النقص؛ إذ يعتمد في كثير من اللحظات على حركة الجسد وتباينات الصوت لتعميق المعنى.
العرض يتخذ من شخصية مضحكة/مأزومة محورًا تعبيريًّا، ويشتغل على تواشجات بين الضحك كقناع وظيفي والمعاناة كحقيقة محسوسة، وهذا المزج بين الاعتراف والكوميديا السوداء يضع العرض في خانة المونودراما ذات البعد الاجتماعي والنفسي، كما ينتج العرض خطابًا نقديًّا يشتبك مع قتل الموهبة، وضغوط المجتمع، والنظرة الدونية للفن، والمنافسة غير الشريفة، وصعوبة العمل الفني، واندثار تراث المونولوج، وتندرج هذه القضايا ضمن الاحتجاج الأدائي الذي يوظف الفكاهة لكشف الألم، ويتبنى العرض بنية شبه اعترافية، تستعيد مراحل من حياة البطل: الصبا، التمرد المدرسي، الخلاف العائلي، البحث عن وظيفة، وصولًا إلى لحظة الاعتراف الأبوي، ويتداخل هذا السرد الذاتي مع السرد الخاص بفن المونولوج، وينتهي العرض بالنظر إلى البرواز المظلم، في إشارة إلى انطفاء فن المونولوج. هذه النهاية تعيد إنتاج الثيمة المركزية: اندثار الفن واختفاء صوته؛ حيث تتحول العلامة (البرواز) إلى مرآة لغياب الفن ذاته.
الميتامسرح:
العرض يتبنى خطابًا ميتاثيترًا (Metatheater) صريحًا، عبر وعي المسرح بذاته كفعل تمثيل؛ حيث يتناول المونولوج، تعريفاته، أزمته، وشبه اندثاره، فيقدم البطل تعريفات للمونولوج، للمونولوجيست، وصفات المضحك، ويعلق على مصادر المعلومات (ويكيبيديا)، ويصوغ تعريفه الشخصي للمونولوج. لقد قدم البطل التعريفات التالية: "المونولوج: هي كلمة يونانية تتكون من جزئين، مونو يعني واحد، لوج يعني أداء أو خطاب، أي الأداء الفردي، والشخص الذي يقدم المونولوج يسمى المونولوجيست، والمونولوجيست: هو شخص لديه القدرة على إضحاك الجمهور وتسليتهم من خلال تقليد الشخصيات، أو إلقاء النكت والطرائف، ويودي المونولوجات والاسكتشات الغنائية بأسلوب ساخر ومضحك"، ثم علق البطل قائلا: "بس مو دايما، طبعا الحكي هذا مأخوذ من الكتب"، ثم وضع البطل تعريفه الخاص للمونولوج قائلا: "الضحكة، الفرحة، البهجة" وأيضا وضع صفات المضحك – رغم أنه حاول أن يكسر حالتها من خلال التمثيل- إلا أنه فصلها بقوله "يجب أن يكون سريع البديهة، أديبًا، نظيفًا، كتومًا، لطيفًا، خفيفًا، ظريفًا، طريفًا" ولكن هذه التعريفات تؤدي وظيفتين متعارضتين؛ وظيفة معرفية تقدم للمتلقي إحاطة مختصرة لفن آيل إلى الاندثار، في محاولة لتبيان السياق، ووظيفة درامية محفوفة بالمخاطر؛ إذ إن الإفراط في الشرح يهدد بتوليد رتابة وإبطاء في الحركة الدرامية؛ فالشرح المباشر يضر بالبناء الدرامي إن لم يكن مدفوعا بالفعل، والملاحظ أن بعض ما يعرضه البطل هنا هو أقرب إلى محاضرة مسرحية منه إلى اندماج عضوي داخل الحبكة.
كما عمد البطل إلى التعريف بالشخصيات، وقام بتقديم كل شخصية عبر فقرة تعريفية، مما قد يخلق رتابة، خصوصًا أن العرض يقوم على التقمص في جزء كبير منه، إلَّا أن البطل حاول كسر هذا النمط السردي عبر تحويل التعريف إلى موال لبناني عند تقديم فيلمون وهبي، مما يعيد –نسبيًّا- الحيوية للخطاب ويمنح المونودراما مساحة صوتية متنوعة.
حاول البطل أيضًا ربط المونولوج بالمضحك العربي القديم عبر شخصية أبي دلامة وهذا يفتح أفقًا ثقافيًّا مهمًّا، لكنه من الناحية الدرامية يحتاج إلى معالجة مسرحية أعمق لكي يتحول إلى خطاب درامي لا مجرد إحالات تراثية.
السينوغرافيا:
تقوم المونودراما على تقسيم مسرحي واضح إلى ثلاث مناطق متمايزة وظيفيًّا ودلاليًّا، وهو تقسيم لا يخضع لمنطق هندسي جامد بقدر ما ينطوي على بنية جمالية دينامية تتيح للممثل أن يعبر بين طبقات هويته، وأن ينتقل من مستوى سردي إلى آخر بطريقة عضوية، فالمسرح هنا ليس سطحًا فارغًا بل فضاءً مقسمًا بحسب مستويات الذات: ذات تؤدي، وذات تستعد للأداء، وذات تتأمل ذاتها. هذا التقسيم المكاني يشبه الفضاء متعدد الطبقات؛ حيث يكون المكان الواحد قابلًا لأن ينتج عوالم مختلفة بحسب علاقة الجسد به، وبحسب درجة انغماس الممثل في بناء حقيقته المتخيلة.
المنطقة الأولى- غرفة الملابس:
وهي تعبر عن منطقة التجهيز في مستوى ما قبل تقليد الشخصيات، وتحوي المرآة المحاطة باللمبات والتي ترسخ ذهنيًّا صورة المسرح التقليدي المرتبط بممثل الاستعراض، ومنطقة تغيير الملابس، والتي تضم أزياء الشخصيات، التي يرتديها الممثل أمام الجمهور، ليخلق مستوى ميتامسرحي يجعل الممثل يرى نفسه بوصفه مادة العمل، وترتب الإكسسوارات كعلامات دلالية تمهد لظهور الشخصيات، وما يلفت النظر هو تصميم علاقة الملابس (المشاجب) على شكل أعمدة على رأسها ميكروفونات، وهو تصميم ليس مجرد تفصيلة شكلية، للربط بين المايكروفون والمونولوجيست، بل هو حيلة بصرية تعمق العلاقة بين الممثل وصوته بوصفه أداة السلطة المتفردة في عالم المونولوج، فالميكروفون الذي يتكرر في كل شيء هو رمز السيطرة على الحكاية، وهو ما يمكن استنباطه أيضًا من كون التأليف والإخراج والديكور والتمثيل في هذا العرض تئول لشخص واحد هو مشعل العيدان، ولكن حين يتحول الميكروفون إلى علاقة ملابس، يصبح هوية معلقة، قابلة للارتداء والنزع، مما يحيل إلى الهشاشة التي تعانيها مهنة المونولوجيست، وفيها أيضا يعاد إنتاج مفهوم الممثل ككائن بين الهويات، في إطار لعب الأدوار التحويلية التي يمارسها المؤدي؛ إذ يصبح الفضاء هنا منطقة العبور بين الذات والشخصية.
في هذه المنطقة أيضا تم تقديم شخصية المونولوجيست المنافس غير الشريف أمام المرآة، ويتصاعد هذا البعد الدلالي حين تتحول المرآة من مجرد أداة تجمل إلى شاشة إدانة، فالممثل يقوم بمحاكاة الآخر الذي دمر حياته المهنية عبر الإشاعات، وذلك داخل أكثر الفضاءات حميمية: غرفة إعداد الشخصية، وهذه المفارقة تمنح السرد طاقته الدرامية؛ لأن التشويه يحدث هنا في فضاء الخلق (ما قبل العرض) لا في مسرح العرض (المنطقة الثانية)، فالصراع يبدأ قبل ظهور الشخصية على الجمهور، في إشارة إلى انكفاء المنافس غير الشريف على تدبير المكائد للبطل في مكان يحتمل من الخصوصية والسرية ما يحتمل بدلًا من الاهتمام بتطوير فنه والإعداد الجيد له.
المنطقة الثانية- منطقة أداء العرض:
وهي الفضاء الذي تتداخل فيه الشخصيات التاريخية والشعبية والفنية مثل محمد الويس، وشكوكو، وفليمون وهبي، - في إشارة لانبساط رقعة فن المونولوج في مصر ولبنان والخليج- وأبي دلامة وشخصية الوالد، هذا التنوع في الحضور لا يصنعه ديكور معقد بل يخلقه الممثل عبر انتقالات جسدية وصوتية أمام ميكروفون واحد يتحول هو ذاته إلى مكتب، وإلى شخص الوالد حين يقبل رأسه، وهذه القدرة على تحويل الغرض الواحد إلى أغراض متعددة تنسجم مع الاقتصاد الأدائي؛ حيث يتحول الشيء البسيط إلى مولد دلالي غني من خلال فعل الممثل لا من خلال صناعته المادية، في هذه المنطقة أيضا الباب الخلفي الذي يدخل منه البطل إلى عوالم شخصياته، ويمثل حدًّا فاصلا بين ذات الممثل وذات الشخصية، كما يستخدم في الاتجاه المعاكس عندما يمثل البطل لحظة انتظار لجنة المواهب، ليصبح الباب نفسه رمزًا للعبور والانتظار والاختبار ثم الشهرة والمجد، وهكذا ينجح العرض في جعل الفضاء مرنًا، قابلا لإعادة التفسير عبر تغير السياق الأدائي، وتستخدم العناصر (الميكروفون/ الباب الخلفي) بوصفها دوال مرنة تتبدل وظائفها الدلالية حسب السياق، من خلال الاستخدام لا من خلال ماهيتها الفيزيائية.
المنطقة الثالثة- المنطقة الشخصية:
وهي المنطقة التي يدخل منها العرض في مستوى السيرة الذاتية الممسرحة؛ حيث تقوم المنطقة الشخصية على كشف السرد الأوتوبيوغرافي للبطل، وتجسيد حياته الخاصة من خلال مكتبه وكرسيه ونظارته ونسخة كتاب فن المونولوج، والهاتف، ويتجلى الميتامسرح هنا بوضوح؛ إذ تتحول الأدوات إلى علامات على وعي الممثل بذاته كمؤد وبطبيعة الفن الذي يمارسه. النظارة المرتبطة بأنف كبير هي أيضا قناع نقدي، إشارة إلى عملية التنظير الذي يصاحب الفن أحيانًا، ويجعل الممثل يعلق على نفسه وعلى فنه في الآن نفسه، مما يضاعف من طبقات السرد. أما علاقة الملابس الثانية، التي تحمل إكسسوارات وملابس والده وملابس وظيفته، فهي منطقة موازنة للمنطقة الأولى ولكنها تتعلق بما هو شخصي واجتماعي وليس فنيًّا، مما يجعل الأشياء اليومية فيها علامات مسرحية تتجاوز وظيفتها الأصلية لتصبح متنًا سرديًّا قائمًا بذاته.
يبلغ استخدام هذه المنطقة ذروته حين يؤدي الممثل شخصية والده، وأثناء بحث البطل عن وظيفة، فيتحول المكتب والهاتف إلى فضاء إداري، والصورة المعلقة لمسعود المضحكاني إلى أيقونة مزدوجة تظهر أحيانا بصورته وتنعكس في وجهها الآخر بصورة إسماعيل يس، مما يضاعف المعنى؛ لأن إسماعيل يس ليس مجرد شخصية فنية بل يمثل إرثًا كوميديًّا كاملًا، وحين يضع البطل صورته في موضع صورة إسماعيل يس يصبح مسرح المونودراما فضاء للتفاوض بين الماضي والحاضر، بين الموروث والابتكار، بين التقليد والبحث عن الهوية، وامتداد المعاناة الفنية أيضًا حين يستحضر البطل أغنية "عيني علينا يا أهل الفن" لإسماعيل يس.
الأزياء والإكسسوارات:
توظيف الأزياء والإكسسوارات كان أحد أقوى عناصر العرض، خصوصا في ربط كل شخصية بإكسسوار يرمز إليها، فبدلة البطل ذات الطابع القديم تحيل الجمهور مباشرة إلى زمن ازدهار المونولوج، وتؤسس علاقة وجدانية مع تراثه، وقد نجح العرض في تحويل الزي إلى قناة ذاكرية، تعمق قدرة الأداء على استدعاء الزمن عبر العلامة الجسدية، وكذلك زي أبي دلامة.
مثلت الإكسسوارات عناصر سيميائية واضحة، فمع شكوكو، استثمر الطرطور الذي اشتهر شكوكو بارتدائه مع الجلباب، ومع فيلمون وهبي، استثمر الخوذة العسكرية في تقليده لمقطع من مونولوج كلاشنكوف السياسي، ومع محمد الويس استخدم الشعر المستعار والكرافات المشابه لمظهر جلد الزرافة، في سردة لقصة الأرنب والزرافة، ومع أبو دلامة استعمل العمامة ولحية القرد المتوافقة مع الأبيات المختارة لأبي دلامة وهو يهجو نفسه ويشببها بالقرد، ومع الأب استخدم الطاقية والنظارة، ومع الموظف استخدم هيئة موظف تقليدية، ومع المُنَظِّر استعمل النظارة ذات الأنف الكبير، وهو ما يتوافق مع العلامات المعرفة للشخصية التي تستخدم في العروض الأحادية لتفادي التشابه بين الأصوات داخل جسد واحد، وقد نجح الممثل في ذلك نجاحًا بيّنًا، لكنه أفرط أحيانا في شرح الشخصيات قبل تمثيلها، مما قلل من قوة المفاجأة الدرامية، الأمر الذي يشدد فيه على أن الشخصية يجب أن تولد من الفعل لا من الوصف.
الإضاءة:
تأتي الإضاءة في العرض كعنصر ملتبس، فهي تسهم أحيانًا في خلق جو استعراضي، وأحيانًا تفقد دافعها الدرامي. افتتاحًا، يبدأ العرض بمساحات ضوء نقطية متناثرة على أرضية الخشبة ومرايا محاطة بلمبات صغيرة مما يبني فضاء مشحونًا بصريًّا قبل ظهور الممثل، واستخدمت البقعة المركزية كمنطقة إضاءة مركزية في العرض، ولكن أحيانًا تختار الإضاءة لونًا أو زاوية غير مبررين دراميًّا مثال مشهد الأب الذي استخدم فيه ضوء أحمر بلا مساهمة واضحة في قصة المشهد، فظهر اللون كخيار جمالي معزول وليس كناتج عن مصدر داخل المشهد، في بعض اللحظات كانت الإضاءة ضعيفة على وجه البطل بحيث فقد الجمهور تعابيرًا دقيقة مهمة لقراءة الحالة النفسية، كما أن هناك تشتت في العلامة البصرية؛ فكثرة القطع والإضاءات العرضية قد تشوش على اقتصاد العلامة المطلوب في عرض الممثل الواحد.
كان من المهم في مشهد الميكروفون المضيء زيادة الإضاءة الأساسية التي تم تسليطها على وجه الممثل المثبت على الوجه بدلّا من أن يكون نصف وجه الممثل غارقًا في العتمة، يوضح الملامح دون أن يزيل الإحساس الدرامي.
الموسيقى والمؤثرات:
العرض يستخدم أصوات تقديم (إعلانات، مقدم مسابقات)، وصوت تسجيلات سابقة كمداخل لخلق إحساس بالمؤسسات (لجنة مسابقة، إعلان تلفزيوني). هذه الأصوات تعمل على بناء العالم الخارجي الذي يفرض على البطل قراراته ومآلاته المهنية، كوسيلة لخلق تعدد أصوات دون المساس بخصائص المسرح الفردي، فهذه الأصوات خلقت إيهاما بوجود عالم كامل خارج جسد الممثل، لكنها بقيت في الحد الأدنى ولم تتحول إلى عنصر طاغ، فحافظ العرض على شرطه المونودرامي.
كذلك الهاتف، وصوت الجمهور المفترض أو أصوات التفاعلات الكوميدية أو الكوميدية الساخرة المتقطعة، وصوت الآلة الكاتبة كانت موظفة إلى حد كبير.
لكن من الملاحظ أن الخلط بين الموسيقى المسجلة والأداء الحي لم يكن دائمًا متوازنًا؛ أحيانًا تغطي الموسيقى النبرة الصوتية الدقيقة للممثل أو تتداخل مع صوته الميكروفوني.
الأداء:
يعتمد الممثل على ثلاثة مستويات صوتية أساسية تتفرع عنها نبرات ثانوية: أولاها النبرة الجوهرية لشخصية مسعود المضحكاني، وهي النبرة الأقرب إلى صوت الممثل الحقيقي: متوسطة الطبقة، تحمل مسحة مرارة مضمرة، مكسوة بسخرية خفيفة، وهذه النبرة هي الصوت المرجعي الذي يعود إليه العرض كلما انتقل من شخصية إلى أخرى، وبذلك تعمل كنبرة سردية محايدة، ثم نبرات الشخصيات التاريخية والفنية التي يستحضرها مثل: أبو دلامة، فيلمون وهبي، شكوكو، إسماعيل يس، وهذه النبرات ليست تقليدا صوتيا مباشرا بل تحيل إلى الشخصية دون أن تستنسخها، ثم نبرة الشخصيات السلبية داخل خط السرد وأبرزها المونولوجيست المنافس، أو مدير الشركة، أو مسئولو التوظيف، وتتسم هذه النبرات بالسخرية والحدة والغلظة أحيانا؛ ليعبر الصوت عن طبيعة الشخصية من خلال الإيقاع قبل المعنى.
وعندما يستخدم الممثل نبرة تهكمية وهو يحكي عن فشل محاولته في إيجاد عمل، فإنه يخلق مسافة بينه وبين المعاناة، فتتحول النبرة من أداة سرد إلى آلية نقد اجتماعي، كما أن بعض التحولات الصوتية – خصوصا عند دخوله عالم الشخصيات التاريخية – تعمل عمل عتبة ينتقل عبرها المضحكاني من عالمه الواقعي إلى عالم الفنتازيا الأدائية، ويتكفل الصوت بخلق ردود أفعال وتفاعلات تخيلية؛ فحين ينتقل من صوته العادي إلى صوت مدير الشركة ثم يعود إلى صوته مجددا، فإننا نسمع حوارا رغم وجود شخص واحد فقط، فيتحقق ما يشبه البوليفونية الدرامية داخل جسد واحد.
تتسم حركة البطل بقدرتها على رسم ملامح الشخصيات، لكن تكرار بعض الحركات - خاصة الخروج والدخول المتكرر عبر الباب- يؤدي أحيانا إلى ضعف في الاقتصاد الحركي ويشتت الدلالة، كما خلط الممثل بين المناطق المفترضة للفضاء في تقليده لمونولوج فيلمون وهبي كلاشنكوف عندما استخدم المكتب ملاذا من الرصاص، وهو ما يكسر المخطط السيميائي الذي بدأ به العرض، فقد كان معتادا على تقديم الشخصيات الفنية (إلوس/ شكوكو/ أبو دلامة) في منطقة العرض الوسطى، ومع ذلك، تبقى الحركة غالبا دلالية وليست انتقالا فيزيائيا؛ إذ تجسد كل خطوة انتقالا نفسيا لا مكانيا.
في الختام، يمثل عرض المضحكاني لمشعل العيدان محاولة طموحة وواعية لاستثمار طاقات فن المونودراما، عبر بناء سيميائي مكثف وجماليّات أداء جيدة، مشتبكًا مع ثنائية الضحك والمعاناة في إطار الكوميديا السوداء والسيرة الذاتية الممسرحة.
استطاع العيدان أن يحقق اقتصادًا أدائيًّا فعالًا يحوّل الغرض البسيط إلى مولّد دلالي غني، كما برع الممثل في تحقيق التعدد الصوتي داخل الجسد الواحد، ناقلًا نبرات متمايزة بين الشخصية الجوهرية والشخصيات المستحضرة، مما أرسى أساسًا للبوليفونية الدرامية.
وعلى الرغم من الملاحظات التي انتابت العرض، يظل المضحكاني بمثابة بيان فني يجمع بين التكريم لتراث المونولوج والاحتجاج الأدائي على اندثاره وقضايا الفن. لقد نجح العرض في إنتاج خطاب نقدي-اجتماعي يزاوج ببراعة بين الحميمية الاعترافية والوعي الميتاثيتري، مؤكدًا أن المونودراما هي مختبر لكشف حدود العلاقة بين الجسد والذاكرة والمكان والوعي، ويشير مشهد النهاية، حيث البرواز المظلم يصبح مرآة لغياب الفن، إلى قدرة المونودراما على تكثيف القضايا الكبرى في علامة بصرية واحدة.


