العلاقات الأميركية–الإسرائيلية: من التحالف الظرفي إلى البنية البنيوية

ديسمبر 23, 2025 - 22:40
ديسمبر 23, 2025 - 22:48
 0
العلاقات الأميركية–الإسرائيلية: من التحالف الظرفي إلى البنية البنيوية


باسم الموسوي
ليست العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل علاقةً عادية بين دولتين، ولا يمكن اختزالها في توصيفات دبلوماسية مألوفة من قبيل “تحالف استراتيجي” أو “شراكة قيم”. ما تكشفه الكتب التي بين أيدينا هو أن هذه العلاقة تشكّلت تاريخيًا بوصفها بنية سياسية–ثقافية متشابكة، تتجاوز المصالح الظرفية، وتعمل في عمق السياسة الأميركية نفسها، فتؤثّر في تعريف المصلحة القومية، وفي حدود النقاش العام، وفي صورة الشرق الأوسط داخل المخيال الأميركي. ومن هنا، فإن فهم هذه العلاقة يقتضي الخروج من السرديات التبسيطية، والاقتراب من تحليل تاريخي ونقدي طويل النفس.
تبدأ القصة، كما يبيّن David Schoenbaum في كتابه The United States and the State of Israel، من سياق ما بعد الحرب العالمية الثانية. لم تكن إسرائيل منذ لحظة إعلانها عام 1948 “حليفًا طبيعيًا” للولايات المتحدة. في السنوات الأولى، ظلّ التردّد الأميركي واضحًا، محكومًا باعتبارات الحرب الباردة، والنفط العربي، والعلاقة مع بريطانيا. غير أن العلاقة تطوّرت تدريجيًا عبر سلسلة أزمات وحروب، إلى أن تحوّلت من اعتراف دبلوماسي بارد إلى شراكة سياسية وعسكرية وثيقة. هذا التطوّر لم يكن خطّيًا، بل اتّسم بالتجاذب، وبمحاولات أميركية متكرّرة لضبط السلوك الإسرائيلي، سرعان ما كانت تتآكل تحت ضغط الوقائع.
هنا يقدّم Abraham Ben-Zvi تحليلًا حاسمًا في كتابه The United States and Israel: The Limits of the Special Relationship. يفكّك بن-تسفي فكرة “العلاقة الخاصة” عبر تتبّع الأزمات التي اصطدمت فيها إسرائيل مباشرة بالإرادة الأميركية: أزمة مياه بنات يعقوب، العدوان الثلاثي، حرب 1973، اجتياح لبنان، والملف الفلسطيني. في كل هذه المحطات، تظهر أن واشنطن حاولت – نظريًا – فرض حدود على إسرائيل حين تعارضت سياساتها مع حسابات أميركية أوسع. غير أن النتيجة النهائية تكاد تكون واحدة: الولايات المتحدة نادرًا ما استطاعت تحويل خلافاتها إلى سياسة ضغط مستدامة. فـ”الحدود” التي يتحدث عنها بن-تسفي كانت مؤقتة، تكتيكية، وسرعان ما تُعاد صياغتها ضمن إطار استثنائي يعيد تأكيد متانة العلاقة بدل كبحها.
هذا الاستثناء لا يمكن فهمه فقط عبر الحسابات الاستراتيجية. هنا يبرز التحليل الأكثر إثارة للجدل في كتاب The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy لـ John J. Mearsheimer و**Stephen M. Walt**. يجادل الكاتبان بأن الدعم الأميركي لإسرائيل لا يُفسَّر لا بالمنفعة الأمنية المباشرة، ولا بالاعتبارات الأخلاقية المعلنة، بل بدور شبكة ضغط واسعة ومتعددة المستويات – سياسية، تشريعية، إعلامية، فكرية – تعمل على جعل الانحياز لإسرائيل الخيار “الطبيعي” داخل السياسة الأميركية. لا يتحدّث الكتاب عن مؤامرة مغلقة، بل عن منظومة تأثير تجعل كلفة معارضة إسرائيل داخل واشنطن مرتفعة إلى حدّ الردع السياسي. وبهذا المعنى، لا تكون العلاقة نتاج قرار استراتيجي واعٍ بقدر ما هي نتيجة بنية داخلية تعيد إنتاج نفسها.
لكن اللوبي وحده لا يفسّر كل شيء. فكما يبيّن Douglas Little في كتابه American Orientalism، تعمل هذه العلاقة ضمن إطار ثقافي أوسع، هو “الاستشراق الأميركي”. فالشرق الأوسط، في الوعي الأميركي، ليس فضاءً سياسيًا طبيعيًا، بل منطقة تُرى عبر صور نمطية: العنف، اللاعقلانية، الدين، والتخلّف. ضمن هذا الإطار، تُقدَّم إسرائيل كاستثناء حضاري: دولة “غربية” في محيط “شرقي” مضطرب. هذا التمثّل الثقافي يسهّل تبرير الدعم غير المشروط، لأن الصراع يُعاد تعريفه أخلاقيًا لا سياسيًا: ديمقراطية تحارب الفوضى، لا دولة تحتل شعبًا آخر. هكذا، تصبح إسرائيل جزءًا من سردية أميركية عن الذات، لا مجرد حليف خارجي.
في مقابل هذه المقاربات النقدية، يمثّل كتاب A Path Out of the Desert لـ Kenneth M. Pollack محاولة إصلاحية من داخل المؤسسة الأميركية. يعترف بولّاك بأن السياسات الأميركية في الشرق الأوسط فشلت، وبأن الاعتماد على القوة العسكرية والدعم الأعمى لحلفاء إقليميين – وفي مقدّمهم إسرائيل – لم يؤدِّ إلى الاستقرار. لكنه، في الوقت نفسه، لا يذهب إلى حدّ مساءلة جوهر العلاقة الأميركية–الإسرائيلية. فإسرائيل تبقى في تحليله عنصرًا ثابتًا في أي استراتيجية مستقبلية، لا موضوعًا للمراجعة. وهذا ما يبرز حدود النقد “المؤسسي”: فهو ينتقد الأدوات لا البنية.
من خلال جمع هذه التحليلات، تتضح صورة مركّبة للعلاقات الأميركية–الإسرائيلية. إنها علاقة تشكّلت تاريخيًا، وتعمّقت عبر الحروب والأزمات، وتحوّلت إلى جزء من الهوية السياسية الأميركية ذاتها. ليست علاقة خالية من التوتر، لكنها أيضًا ليست قابلة للفك بسهولة. فإسرائيل ليست مجرد حليف للولايات المتحدة؛ إنها عنصر داخلي في سياستها، وفي خطابها، وفي تصوّرها للعالم.
لهذا السبب، فإن أي حديث عن “تغيير” السياسة الأميركية تجاه إسرائيل يصطدم بعوائق بنيوية: ضغط داخلي، سرديات ثقافية، تاريخ طويل من الاستثناء. وما دام هذا الإطار قائمًا، ستبقى العلاقة الأميركية–الإسرائيلية علاقة غير متكافئة مع المنطقة، وغير خاضعة لمعايير القانون الدولي التي تُطبَّق على غيرها، وعلاقة تُنتج أزمات أكثر مما تحلّها.
بهذا المعنى، لا تشرح هذه الكتب كيف تتعامل أميركا مع إسرائيل فحسب، بل تكشف كيف تفكّر أميركا بذاتها: كقوة أخلاقية ترى في تحالفها مع إسرائيل تأكيدًا لدورها، حتى حين يتناقض هذا الدور مع الوقائع، ومع العدالة، ومع الاستقرار الذي تدّعي السعي إليه.