سقوط إسرائيل

نوفمبر 14, 2025 - 14:45
 0
سقوط إسرائيل

كتب باسم الموسوي:
يبدأ دان شتاينبوك من الصورة التي أصبحت رمزاً لبؤس القرن الحادي والعشرين: غزة المدمّرة، وبالأخصّ حيّ الرمال، الذي تحوّل خلال أيام قليلة إلى فراغ من الركام بعد الهجوم الإسرائيلي الواسع عقب عملية 7 أكتوبر 2023. يضع شتاينبوك هذا الانفجار في قلب سرديته ليفتح السؤال الأكبر: كيف وصلت إسرائيل إلى هذا الحدّ من العنف العدمي الذي لا يُبقي شيئاً، وإلى هذا المستوى من الانكشاف الأخلاقي والسياسي والعسكري؟ وكيف أصبح مشروعٌ وُلد بوعد الديمقراطية والحداثة ينزلق نحو أوتوقراطية يهوديّة متشدّدة، ويحوّل الاحتلال من هيمنة إلى شكل من أشكال الاستعمار الإحلالي العاري؟

ينطلق الكاتب من أطروحة مركزية: أنّ سقوط إسرائيل ليس حدثاً مستقبلياً بل واقعٌ بدأ منذ عقود، يظهر اليوم في ثلاثة مستويات متزامنة: انحلال البنية السياسية، تآكل الاقتصاد، وتضعضع القوة العسكرية. ويسمّي هذه اللحظة “السقوط”، ليس بمعنى انهيار الدولة فوراً، بل بمعنى دخولها مرحلة اهتزاز جذري يجعل استمرارها بالشكل الذي عرفه العالم منذ 1948 مجرد وهم.

من النكبة إلى التديّن السياسي: جذور السقوط
الفصل الأول من الكتاب يعيد تفكيك “الأسطورة التأسيسية” لإسرائيل عبر العودة إلى النكبة بوصفها أصل الصراع لا نتيجة لاحقة له. فإسرائيل لم تبدأ باحتلال 1967، بل بدأت بعملية “اقتلاع” سكّان البلاد الأصليين في 1947–1949، وهي ما يعتبرها شتاينبوك اللحظة التكوينية التي ستُبنى عليها كلّ السياسات اللاحقة: الأبارتهايد، العزل، الطوارئ الدائمة، وخلق واقع ديموغرافي جديد بالقوة. يقرأ الكاتب وثائق ودلائل حول طرد القرى، شهادات من مذكّرات رابين، والصمت الإسرائيلي الرسمي المدعوم من الإغلاق الأرشيفي، ليظهر أنّ “الأمن” لم يكن يوماً هو المحرّك، بل “الهندسة الديموغرافية” التي تجعل من الأرض ملكاً حصرياً للمشروع الصهيوني.

هذه الجذور العميقة تمتد في تحليله لتشمل فكرة “نقل السكان”، من خطط بن غوريون إلى خطة داليت، ثم إلى ما يكشفه الكتاب من وثيقة حكومية حديثة تقترح ــ بعد حرب غزة ــ إعادة طرح سيناريو “ترحيل” الفلسطينيين من القطاع وإعادة توطين مستوطنين على شاطئه، بما ينسجم مع رؤية يمينية - مسيانية ترى في غزة آخر “عائق جغرافي” أمام المشروع التوسّعي.


. الاستيطان: من مشروع أمني إلى مشروع خلاص ديني
يخصّص شتاينبوك فصولاً واسعة لشرح كيفية تحوّل الاستيطان من مشروع “أمني” مصمَّم بعد 1967 إلى مشروع “خلاصي-لاهوتي” تقوده مجموعات متطرفة تعتمد على قراءة كاهانية للتاريخ والنبوة. في السردية التي يقدّمها الكاتب، لا يفصل الاستيطان بين القوة والسياسة والدين؛ بل هو تجسّد لعلنية “الاستعمار الإحلالي” الذي لم يعد يخجل من لغته ولا من أهدافه. ولذا، فإن صعود غوش إيمونيم، ودعم أثرياء يهود من الولايات المتحدة، وتحوّل المذهب القومي الديني إلى رافعة سياسية، كلها عوامل غذّت التحاماً بين اليمين واليمين المتدين، ودفعت بإسرائيل إلى حيث تعيش اليوم: دولة يحكمها تحالف من الحاخامات والسياسيين، ينظر إلى الفلسطينيين بوصفهم فائضاً بشرياً يجب إدارته أو التخلص منه.


 التحالف مع الولايات المتحدة: التبعية الكاملة
في قراءته للعلاقات الأميركية – الإسرائيلية، يرفض شتاينبوك المقاربة التقليدية التي ترى أنّ الدعم الأميركي مجرد “تحالف استراتيجي”، ويعتبره مصنعاً لإنتاج التطرّف. فالولايات المتحدة، منذ السبعينيات، لم تكن مجرّد داعم دبلوماسي، بل هي التي أعادت تشكيل العقيدة العسكرية الإسرائيلية، وعززت صعود اليمين عبر شبكات التمويل والدعم السياسي، ومنحت الحروب الإسرائيلية غطاءً مطلقاً، وجعلت من الاقتصاد الإسرائيلي تابعاً للمجمع الصناعي العسكري الأميركي من خلال المساعدات والاتفاقات المشتركة.

يؤكد الكاتب أن هذه العلاقة خلقت “حلقة مفرغة”: كلما ازدادت إسرائيل اعتماداً على القوة، ازدادت واشنطن التزاماً بالدعم، وكلما ازداد الدعم، ازداد الاحتلال توغّلاً. وهكذا نشأت إسرائيل المعاصرة: دولة تتصرف كقوة فوق القانون لأنها محمية بقوة أكبر منها.

 عسكرة الدولة: من التفوق العسكري إلى الإفلاس العسكري
يروي شتاينبوك تحوّل الجيش الإسرائيلي من جيش “دفاعي” إلى جيش يستثمر الاحتلال كـ“مختبر تقني” لتجريب الأسلحة، من الطائرات المسيّرة إلى الذكاء الاصطناعي القتالي. وهذه التجارب، التي يشحنها الكاتب بدليل وفير، خلقت اقتصاداً إسرائيلياً مرتبطاً بوظائف لا يمكنه الاستغناء عنها: تصدير التكنولوجيا العسكرية، مراقبة الشعوب، تصنيع أدوات المراقبة والقمع. إنها ــ كما يسميها ــ “صناعة الاحتلال”.

لكنّ هذه القوة نفسها، كما يقول، هي التي كشفت سقوط إسرائيل العسكري. فجيشٌ يقوم على التفوق التكنولوجي ولا يمتلك عمقاً بشرياً أو قدرة على تحمل الحروب الطويلة يجد نفسه هشاً أمام مقاومة غير متماثلة. وهكذا شكّلت عملية 7 أكتوبر “صدمة وجودية” فضحت الاعتماد الكلي على التكنولوجيا وقلّة استعداد الجيش لحرب برية طويلة، وهو ما جعل حرب غزة تتحول من “ردّ انتقامي” إلى حرب استنزاف تكلف إسرائيل اقتصادياً وسياسياً أكثر مما تكلف الفلسطينيين.

 الاقتصاد: أسطورة “الستارت أب” تنهار
يفرد الكتاب جزءاً كبيراً لتحليل الاقتصاد الإسرائيلي الذي يُسوّق دولياً باعتباره “قوة تكنولوجية متقدمة”. لكن شتاينبوك يظهر الوجه الآخر: اقتصاد يقوم على فجوة طبقية عميقة، وفقدان الطبقة الوسطى، واستنزاف كامل لقدرة الدولة على إنتاج رفاه اجتماعي. ومع تضخم القطاع العسكري والأمني، تحوّل الاستثمار إلى ما يخدم الحرب لا المجتمع.

يصف الكاتب الاقتصاد الإسرائيلي بأنه اقتصاد غير مستدام، يعتمد على ثلاثة أعمدة متصدعة: المساعدات الأميركية، قطاع التكنولوجيا المرتبط بالأمن، وقطاع مالي يتضخم أكثر من قدرات الدولة الحقيقية. ومع حرب غزة، تنكشف هذه الأعمدة: هجرة العقول، تراجع الاستثمارات، انهيار الثقة، وتكاليف العسكرة التي قد توصل إسرائيل إلى الإفلاس.

 السياسة: تفكك الداخل وتصدع المجتمع
يخصص شتاينبوك فصولاً كاملة لتحليل الانقسام الداخلي بين العلمانيين والمتدينين، بين الأشكناز والمزراحيم، وبين اليمين واليمين المتطرف. ويعتبر أنّ إصلاحات نتنياهو القضائية كانت لحظة انكسار داخلي سابقة للحرب، كشفت انقساماً عميقاً حول مشروع الدولة نفسها: هل هي دولة يهودية؟ أم ديمقراطية؟ أم دولة دينية؟ أم حصيلة قوى الأوليغارشية الجديدة؟

ويرى الكاتب أنّ ما يسمّيه “الأوتوقراطية اليهودية الجديدة” هو نتيجة تراكم طويل بدأ منذ نهاية السبعينيات، حين هزم اليمين معسكر العمل وفرض نموذجاً اقتصادياً وسياسياً يقوم على الخصخصة، النيوليبرالية، والاستيطان، وانتهاء نظام “المجتمع الجماعي” الذي صاغته الحركة العمالية.

 من الأبارتهايد إلى الإبادة: المجرى الأخير للسقوط
يتوّج الكتاب تحليله بالانتقال من الأبارتهايد ــ الذي يصفه بدقّة بوصفه نظاماً من القوانين والأوامر العسكرية ــ إلى القول بأن ما يجري في غزة ليس فقط إبادة سياسية أو ثقافية، بل “إبادة جماعية” تُقاس بمعايير اتفاقية لِمكين. ويستعرض الكاتب المخزون الهائل من الأدلة: حجم التدمير، الخطاب الرسمي، نزع الإنسانية عن الفلسطينيين، السيطرة على الغذاء والماء، والاعتداء الممنهج على المدنيين.

ليصل إلى خلاصة جذرية: أنّ الحرب على غزة ليست حادثاً بل تتويجاً لمسار إسرائيلي طويل نحو اللاتوازن الأخلاقي والسياسي والقانوني، وأنها ــ paradoxically ــ قد تكون الشرارة التي تعجّل انهيار الدولة من الداخل نتيجة التكاليف المتراكمة والتفكك الداخلي.

الخلاصة: أي سقوط يتحدث عنه شتاينبوك؟
لا يتحدث دان شتاينبوك عن “سقوط عسكري”، رغم أنّ الجيش الإسرائيلي يهتزّ. ولا يتحدث عن “سقوط اقتصادي” رغم أنّ الكتاب يقدم مؤشرات على انهيار مقبل. ما يقدّمه هو مفهوم أشمل: سقوط مشروع الدولة. سقوط صورة إسرائيل في العالم، سقوط قدرتها على الاستمرار كديمقراطية، سقوط قدرتها على إدارة الاحتلال، سقوط نموذجها الاقتصادي، وسقوط وحدتها الداخلية.

ويرى الكاتب أنّ الحلّ لن يأتي من داخل إسرائيل، لأنها أصبحت سجينة الأيديولوجيا، ولا من الولايات المتحدة لأنها جزء من الأزمة، بل من تحالف دولي جديد، تقوده القوى الصاعدة مثل الصين، يعيد هيكلة النظام السياسي في المنطقة بقواعد عدالة جديدة.