بيروت تُنصت لأسئلتهم… حكايات الفنّ الشاب في EMERGING TRACES

نوفمبر 10, 2025 - 10:30
نوفمبر 12, 2025 - 15:07
 0
بيروت تُنصت لأسئلتهم… حكايات الفنّ الشاب في EMERGING TRACES

 تحقيق وتصوير : هناء بلال 

في مدينةٍ تتشابك أزقّتها كخيوط ذاكرة، وتتنفّس جدرانها ما تبقّى من الحبر والضوء، ينهض الفنّ في بيروت كنبضٍ آخر… نبضٍ لا يُرى، لكن يمكن الإحساس به في كل خطّ، وكل ظلّ، وكل لونٍ يشقّ طريقه نحو المساحة البيضاء.

هنا، في Escape Gallery، لا تعني “الآثار” ما مضى، بل ما سيأتي. آثار يتركها فنانون شباب، جاء كلٌّ منهم محمّلًا بصوته، وقلقه، ورؤيته، وحلمه… ليجتمعوا في معرض EMERGING TRACES، حيث لا يبحث الفنّ عن الإجابات، بل يعلّمنا الإصغاء للأسئلة.

خطوات الزائر تتباطأ أمام الأعمال كأنها تعبر عوالم متوازية: عالم يُعيد تشكيل الذاكرة، وآخر يلتقط ما يفلت من الحياة، وثالث يغامر في المجهول. وما بين الضوء والظل، يترك كلّ فنان أثره… أثرًا يظلّ معلّقًا في الهواء، يدعو المتلقّي إلى خوض رحلة يعاد فيها تشكيل العالم بعيونٍ جديدة.

هنا، لا تُعرض اللوحات فحسب… بل تتجلّى الروح بملامحها الأولى، تلك التي لا تزال تتكوّن وتنضج وتقاوم. فالمعرض ليس مجرد مساحة عرض، بل حاضنة للبدايات والمغامرات والمحاولات الأولى، كأثرٍ يُكتب للمرة الأولى على رمال الزمن.

الفنانون المشاركون يأتون من خلفيات وتجارب متنوّعة، لكن يجمعهم هاجس واحد: البحث عن لغة فنية جديدة، واختبار حدود التعبير خارج القوالب التقليدية.

ومع كل عمل، تظهر بصمة متفرّدة، بعضها يستعيد تجارب شخصية، وبعضها الآخر يعيد تشكيل الواقع بأسلوب رمزي أو تجريدي، لتتحوّل الصالة إلى مشهديّة تنبض بالحركة والأسئلة.

كان لنا لقاء مع مجموعة من الفنانين الشباب المشاركين في المعرض، حيث تحدّث كلّ منهم عن تجربته ورؤيته الخاصة.

يقول أحمد أمين إنّها مشاركته الأولى إلى جانب فنانين خريجي جامعات، موضحًا أنّ لوحته تُجسّد مشهد الفوضى في الشارع اللبناني؛ فوضى ثابتة تتكرّر يوميًا حتى باتت بالنسبة للبنانيين أمرًا «منظّمًا» اعتادوا عليه. ويضيف أنّ لوحته تختصر الواقع بضحكة ساخرة، فهي «ساركازم بصري» يعكس تناقضات صارت جزءًا من يومياتنا.

أما مجتبى السيّد، خريج الجامعة اللبنانية، فركّز في أعماله على أزمة الازدواجية، مستخدمًا الألوان والأشكال الهندسية للتعبير عنها، مع توظيف الأقنعة كرمز للبرود العاطفي وانعدام التفاعل الإنساني في زمن استبدلت فيه الشاشات التواصل الحقيقي. ويرى أنّ الألم كما الجمال قادران على استفزاز الإبداع، داعيًا إلى تعزيز التواصل بين الغاليريهات والجامعة اللبنانية، معتبرًا أنّ حلقة مفقودة ما زالت تتطلب مبادرة وجهدًا ذاتيًا من الفنانين.

وترى الفنانة التشكيلية لونا سلّوم أنّ ما يميّز أعمالها هو تقنية «الحرق» التي تعتمدها، إذ تحرق جزءًا من اللوحة لترمز إلى الفقد، ولتُفرّغ عبرها ما يختلج داخلها من مشاعر. تعتبر هذه التقنية وسيلة قوية للتعبير عن محاولة استعادة ما لا يُستعاد.

وفي مشاركتها الأولى بعد التخرّج، عبّرت الفنانة ريان زعرت عن امتنانها لهذه الفرصة التي أتاحت لها التواصل المباشر مع الجمهور، وتقديم أفكارها الفنية. وقالت إنّ أعمالها تحمل رسالة رفض للصورة المثالية الزائفة التي يروّج لها الإعلام ومنصّات التواصل، مؤكدة أنّها ترصد ما يدور حولها بعين ناقدة ترفض كل ما لا يشبه واقعنا وقيمنا.

وعن مصادر الإلهام، أشارت إلى أنّ كل ما يستفزّها يحرّك مخيّلتها، خصوصًا ما يشهده العالم من غرائب وتناقضات أفقدت الناس القدرة على الحوار والتواصل الحقيقي.

كما التقينا الفنانة سنا جابر التي بادرت إلى جمع مجموعة من الفنانين الشباب بعد أن تواصلت مع جامعاتهم ولاحظت القيمة الفنية في أعمالهم. جابر، وهي أيضًا خريجة الجامعة اللبنانية، تؤمن بأهمية فتح الأبواب أمام المواهب التي لا تُمنح فرصًا بسهولة، داعية إلى مزيد من الاهتمام بهذه الفئة ودعمها.

وتقول جابر: «قد يختلف الفنانون في أساليبهم وألوانهم وطرق سردهم، لكنهم يتشاركون يقينًا واحدًا: أنّ الفن ليس ترفًا ولا زينة… بل ضرورة. ضرورة تشبه التنفّس، وتحتاج إلى الضوء والصمت والشغف لكي تكتمل».

وهكذا، بين جدران هذه الصالة الهادئة، يترك الفنانون الشباب آثارهم الأولى… آثارًا لا تتلاشى، بل تتوالد من نظرة زائر، من دهشة عابر، ومن سؤال يظل معلّقًا فوق فضاء العمل.

في EMERGING TRACES، المعرض المستمر حتى 5 ديسمبر، لا يودّعنا الفنّ بل يرافقنا. يخرج معنا إلى الشارع، يلتصق بذاكرتنا، ويذكّرنا بأنّ الجمال ليس فكرة مكتملة، بل محاولة مستمرة لالتقاط ما يعبر سريعًا من الحياة.

نغادر المعرض، لكن بعض اللوحات تبقى معلّقة في القلب، وبعض الخطوط تستمر في رسمنا… كأننا نحن أيضًا جزء من هذا الأثر.