التنوّع الثقافي... غنى الأمم وضمان استمرارية الحياة
كتب د أسامة توفيق مشيمش:
من قال إنّ الشبه واجب بين أبناء الأمة الواحدة؟ ومن أين جاء الاعتقاد بأنّ التنوّع يُهدّد الوحدة أو يُضعف الانتماء؟ إنّ هذا الفهم الضيّق يتنافى مع سنن الكون التي فُطرت على الاختلاف والتنوّع. فالاختلاف ليس طارئاً على مسار البشرية، بل هو جزء من نسيجها الإنساني والحضاري منذ فجر التاريخ، وهو الذي يضمن ديمومة الحياة واستمرارها.
لقد أراد الله تعالى أن يخلق الناس مختلفين في ألوانهم وألسنتهم وأفكارهم وثقافاتهم، لتتجلّى في هذا التنوع آية من آيات الإبداع الإلهي، لا سبباً للفرقة أو الصراع. وقد أشار القرآن الكريم إلى قيمة هذا التنوّع ودوره في بناء المجتمعات بقوله تعالى: "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون"، أي أنّ التنافس في ميادين الخير والمعرفة والإبداع هو السبيل الصحيح لنهضة البشرية وتقدّمها.
إنّ الاختلاف لا يعني بالضرورة الخلاف، بل يمكن أن يكون باباً للتكامل والتعاون إذا ما تمّ التعامل معه بعقلٍ منفتح وروحٍ مسؤولة. فالتنوّع الثقافي والاجتماعي هو ثروة حقيقية لكلّ وطن، لأنّه يعكس تعدد الرؤى وتنوّع التجارب، ويخلق بيئةً خصبة للحوار والإبداع.
الثقافة... مرآة الإنسان وهويته
الثقافة هي التعبير الأعمق عن هوية الإنسان والمجتمع. فهي ليست مجرّد مظاهر مادية أو تقاليد اجتماعية، بل هي منظومة متكاملة تشمل القيم والمعتقدات والعادات وأنماط التفكير والسلوك. ويمكننا تصنيف مكونات الثقافة إلى ثلاثة مستويات مترابطة:
1. المكوّن المادي: ويتمثل في المظاهر الحسية للحياة اليومية، كاللباس والبيت ووسائل النقل وأدوات العيش.
2. المكوّن غير المادي: ويشمل اللغة والدين والمعرفة والقيم الفكرية التي تشكل الإطار الروحي للمجتمع.
3. المكوّن الاجتماعي: وهو العادات والتقاليد والسلوكيات التي تنظّم العلاقات بين الأفراد والجماعات.
ولكلّ إنسان ثقافته الخاصة التي تنبع من بيئته وتجربته وظروفه الاجتماعية، ولكلّ مجتمع حضارته التي تعبّر عن تاريخه ومسيرته. ومن يمتلك هذه المكوّنات الثلاثة يملك ثقافة متكاملة، ومن يدركها ويحترمها يملك وعياً حضارياً متقدّماً.
احترام الآخر... ركيزة البناء الوطني
إنّ الاعتراف بثقافة الآخر واحترامها لا يعني بالضرورة تبنّيها أو الذوبان فيها، بل هو إقرارٌ بحقّها في الوجود، وإيمانٌ بأنّ التعدد لا يُلغي الوحدة بل يُغنيها. فكلّ ثقافة تُضيف لوناً جديداً إلى لوحة الوطن الكبير، وتجعلها أكثر إشراقاً وعمقاً.
وقد عبّر الإمام المغيّب السيد موسى الصدر عن هذه الحقيقة بعبارة خالدة حين قال: "الطوائف نعمة، والطائفية نقمة". قصد الإمام بهذا القول أنّ وجود الطوائف والتنوّع الديني والاجتماعي هو غنى روحي وإنساني، شرط أن لا يتحوّل إلى أداة للانقسام أو وسيلة للإقصاء. فالطائفية المذمومة هي تلك التي تُقصي الآخر وتغلق باب الحوار، أما التعدد الطائفي المنفتح فهو عنوان للتوازن والثراء الإنساني.
التنوّع مصدر قوة لا ضعف
في المجتمعات المتقدمة، يُنظر إلى التنوّع الثقافي بوصفه رصيداً وطنياً واستراتيجياً، لأنّ تعدد الثقافات يعني تعدد الأفكار والرؤى، وهذا بدوره يُنتج حلولاً أكثر إبداعاً وابتكاراً للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية. أما المجتمعات التي تخشى التنوّع وتُقصي المختلف، فهي تُضيّق على نفسها آفاق التطور، وتفقد جزءاً من حيويتها وقدرتها على النمو.
ومن هنا، فإنّ بناء مجتمع يحترم تعدد الثقافات هو واجب وطني وأخلاقي في آنٍ واحد. فاحترام الآخر يبدأ من التربية والتعليم، وينمو عبر الإعلام والثقافة العامة، ويترسخ في السياسات العامة التي تضمن المساواة والعدالة لجميع المواطنين، بغض النظر عن خلفياتهم الفكرية أو الدينية أو الاجتماعية.
ختاماً
إنّ التعدد الثقافي ليس تحدّياً ينبغي الخوف منه، بل هو فرصة لبناء وطنٍ غنيّ بتنوّعه، قويّ بتضامنه، متماسك بتفاهم مكوّناته. فكما لا يمكن للحديقة أن تزدهر بلونٍ واحد من الزهور، كذلك لا يمكن للوطن أن ينهض بثقافةٍ واحدة أو فكرٍ واحد.
ولعلّ أجمل ما يمكن أن نختم به هو أن نؤمن بأنّ التنوّع في جوهره هو الحياة نفسها، وأنّ احترام الاختلاف هو الطريق الأسمى لبناء وطنٍ يتسع للجميع ويزدهر بالجميع.


