بين منديل أم كلثوم، أزياء صباح.. وصوت فيروز... حنينٌ يخطو على أطراف النغم
تحقيق وتصوير : هناء بلال
تجلس في الصف الأول، برأس مرفوع وظهر مستقيم، تشبك كفيها بهدوء ورصانة و في وقار يشبه انسجام حضور حفلات الزمن الجميل .
تغلق عينيها قليلًا، تستمع إلى صوت أم كلثوم ينساب من حفل قديم، فتتمايل برهافة مع كل نغمة، وكأن الحفل يدور الآن أمامها.
بأناقتها باطلالة سوداء ومجوهراتها اللامعة، تغدو وكأنها عادت من زمن آخر، زمن كانت فيه الموسيقى طقسًا من الرقي والهيبة.
https://youtube.com/shorts/mHvYj1iKQX0?si=FBgyY1-HFL2AUpMO
تسافر بخيالها إلى تلك الحقبة الذهبية، ثم تعود برفق إلى حاضرها، تمسك هاتفها الذكي الغريب عن تلك الأزمنة الساحرة، وتتجوّل في أروقة المعرض بعد استراحة قصيرة من النغم والحنين والذكريات.
وعلى الطرف الآخر من الصالة، تقف صبية في العشرينات تنادي صديقاتها، تتحدث بحماس عن أجمل فساتين السيدة فيروز، لتقترب منها أخرى وتهمس بابتسامة:
"راقبي فساتين الشحرورة، إنها وحدها تعلن الفرح والحياة!"
مشهدان من جيلين مختلفين، يلتقيان في معرض «Divas: من أم كلثوم إلى داليدا»، حيث لا يعود الزمن خطًّا مستقيمًا، بل نغمةً دائرية تجمع الأجيال على لحنٍ واحد من سحر الأنثى العربية وفنها الخالد.
في أروقة المعرض، يتردّد صوت أم كلثوم كأنها ما زالت على المسرح، ترفع المنديل وتلوّح للجمهور. أمام صورتها الضخمة، تصطف مقتنياتها التي تحمل عبق الزمن: فساتينها ، حقيبتها الجلدية، وبعض من أزيائها التي شهدت ليالي المجد والخلود. هناك، تتجلى ملامحها في كل زاوية، كأن حضورها لا يغيب.
وبخطواتٍ خفيفة، يقودك المعرض نحو ركن فيروز، الصوت الذي يوقظ صباحات العرب. فساتينها المعروضة بترفٍ بسيط تشبهها تمامًا: نقاءٌ في اللون، وسكونٌ في الملمس، كأنها ما زالت تهمس "بحبك يا لبنان" بين الجدران البيضاء.
ثم تلوح ابتسامة الشحرورة صباح في الصور والمجلات القديمة، بألوانها الصاخبة التي تُعلن الحياة. فساتينها تفيض بالفرح، وكأنها ترفض الغياب، تصرّ على أن تبقى رمزًا للبهجة وسط أجواء المعرض المضيئة.
وفي زاوية أخرى، تتألق مقتنيات هند رستم، نجمة الأنوثة العربية. حقيبتها الصغيرة، عطرها، نظارتها، وحتى القبعة السوداء التي كانت ترافق ظهورها الأنيق في كواليس التصوير، جواز سفرها وصورتها وكأنك تستعيد تفاصيل سحرها لتروي حكاية سيدة جمعت بين الجرأة والرقيّ.
وفي الختام، ركن وردة الجزائرية، التي تعود إلى جمهورها بفستانها الأنيق وأوسمتها وجوائزها وجواز سفرها وعودها الخشبيّ. كل قطعة هناك تفوح برائحة الأصالة، وتشهد على زمنٍ لم يكن الفن فيه مهنة فحسب، بل رسالةً وذاكرةً ووجدانًا خالدًا.
في قلب بيروت الثقافي، وتحديدًا في متحف سرسق، يتجدد النبض الفني العربي عبر معرض «ديفا: من أم كلثوم إلى داليدا»؛ تجربة فنية ووجدانية تستعيد مسيرة أبرز أيقونات الفن في العالم العربي.
المعرض الذي انطلق من معهد العالم العربي في باريس وحطّ رحاله في العاصمة اللبنانية، يأتي ليُعيد تسليط الضوء على إرث نسائي صنع ذاكرة الشرق الموسيقية والسينمائية، وأعاد تشكيل مفهوم النجومية والأنوثة والقوة عبر العقود.
يمتد المعرض كرحلة بصرية وصوتية عبر أكثر من مئة عام من الفن، من عصر أم كلثوم وجرأة أسمهان، إلى حضور فيروز الخالد، وصولًا إلى جاذبية داليدا العالمية. ولا يكتفي المعرض بعرض صور أو مقتنيات فنية، بل يقدّم تجربة غامرة متعددة الوسائط، تجمع بين الأزياء الأصلية، التسجيلات النادرة، المقابلات، الملصقات التاريخية، ومقتطفات من حفلات ومهرجانات مثل مهرجانات بعلبك، ما يمنح الزائر إحساسًا حقيقيًا بالزمن الذي شكّل تلك النجمات.
ولا يغفل المعرض دور هذه الأصوات النسائية كمحركات للتغيير الاجتماعي، لا كمجرد رموز ترفيه، بل كقامات استطاعت أن تحجز مكانًا في الذاكرة الجماعية وتكسر القوالب التقليدية المفروضة على المرأة آنذاك.
بين الرصانة الفنية لأم كلثوم، والتمرد الناعم لوردة، والأناقة الخالدة لفيروز، والنزعة العالمية لداليدا، تتجسد معاني الحرية والإبداع والجرأة.
وتخص بيروت نسختها من المعرض بلمسات محلية تعكس علاقتها العميقة بتاريخ الفن العربي، فتظهر مقتنيات مرتبطة بالمشهد اللبناني وتجارب رموزه، وخاصة إرث فيروز الذي يشكّل جزءًا من ذاكرة المدينة وهويتها الروحية. هكذا، يتحوّل المعرض إلى مساحة تفاعل بين بيروت الجريحة التي نهضت بعد العاصفة، وبين أصوات عبرت حدود الزمن وبقيت عصيّة على الغياب.
في النهاية، يخرج الزائر من «ديفا» وهو محمّل بحنين نبيل لحقبة ذهبية، وبإدراك أعمق لمكانة تلك النساء في صياغة وجدان المنطقة. إنه ليس مجرد معرض فنّي، بل احتفاء جماعي بالذاكرة والحضور والهوية، ورسالة تُعيد للروح العربية بعضًا من وهجها، وتقول إن الجمال الحقيقي لا يشيخ.
يستمر المعرض بفتح ابوابه حتى الحادي عشر من كانون الثاني من العام القادم ٢٠٢٦.


