محمد… تاكسي بيروت الذي يحمل المدينة على زجاجه...

يروي المقال حكاية محمد، سائق التاكسي الستيني، بوصفه صورة مصغّرة عن بيروت ولبنان. داخل سيارته تجتمع الرموز الدينية والمعتقدات المختلفة، كما تجتمع حكايات الناس وخوفهم وأحلامهم. يستعيد محمد ذكريات أيام ازدهار بيروت حين كان يملك محلًا في وسط المدينة قبل أن يخسره بفعل السياسات التي أبعدت أهلها عنها. من خلال مهنته، كشف خبايا المجتمع وتناقضاته، وبقي شاهدًا على جمال المدينة وبشاعتها في آنٍ واحد، ليصبح محمد رمزًا للبنان المتعب، المتنوّع، والمصرّ على البقاء رغم الخسارات.

ديسمبر 22, 2025 - 10:46
ديسمبر 22, 2025 - 10:48
 0
محمد… تاكسي بيروت الذي يحمل المدينة على زجاجه...

 

كتبت هناء بلال  

محمد، رجلٌ ستّينيّ، يعمل سائقَ تاكسي.
حكايته تختصر عمرَ رجلٍ بيروتيٍّ عانى ما عانته بيروت، وكأن المدينة استودعت ملامحها في وجهه المتعب.

يخبرني محمد أنّه في زمنٍ مضى كان يجني أموالًا طائلة من عمله على شاحنات النقل التي تعبر السواحل اللبنانية. كان البحر مفتوحًا، والرزق أوسع، وبيروت ما زالت تشبه نفسها. اليوم، لم يبقَ له سوى سيارته، التي تحوّلت إلى وطنٍ صغيرٍ متحرّك.

داخل التاكسي، تجتمع المعتقدات والأديان كلّها بلا خصومة:
كتيّب سورٍ قصيرة وجزء “عمّ”، مسبحة، صورة لمار شربل معلّقة على الزجاج الأمامي، خرزة زرقاء، كفّ يدٍ فضيّ لدرء الحسد، صليبٌ مشطوب، ومصحفٌ صغير.
كلّ ما قدّمه له الزبائن عبر السنين احتفظ به، لا بدافع الخرافة فقط، بل كأنّه يجمع شظايا الناس، خوفهم، إيمانهم، ورغبتهم البسيطة بالحماية.

في طريقي معه، يتحدّث محمد عن مهنة سائق التاكسي، وكيف جعلته مرآةً مكشوفة للمجتمع. يقول إنّ هذه المهنة كشفت له خبايا الناس وبشاعتهم كما جمالهم؛ سمع اعترافاتٍ لم تُقل في بيوت، ورأى وجوهًا تسقط عنها الأقنعة عند أول منعطف. “التاكسي”، يقول، “غرفة اعتراف بلا كاهن”.

يستذكر محمد أيّام عزّ بيروت، يوم كان يملك محلّه في وسط البلد. يومها كان قلب المدينة نابضًا بأهلها، لا بواجهاتها. خسر محله، كما خسر كثيرون، بسبب أنانية وهيمنة سياسات ابتلعت بيروت وأبعدت أبناءها عنها، ليمتلكها من لا يعرف شوارعها ولا أسماء ناسها. أُجبر على السكن خارجها، كأن المدينة لفظت أهلها واحدًا واحدًا.

كم يشبه محمد لبنان.
تنوعٌ معلّق على زجاجٍ أمامي، ذاكرة مثقلة بالخسارات، حنينٌ لا ينطفئ، وإصرارٌ عنيد على الاستمرار رغم كلّ شيء.
محمد ليس مجرّد سائق تاكسي؛ هو حكاية مدينةٍ كاملة، تسير ببطء، لكنها لم تتوقّف بعد.