الصناعات الثقافية والمسرح… قراءة في كتاب يرسم خريطة جديدة للإبداع في العصر الرقمي
يعرض المقال للكتاب الذي صدر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة بالاشتراك مع أكاديمية الفنون كتاب "الصناعات الثقافية والمسرح"؛ الذي يطرح رؤية موسوعية متماسكة حول واحدة من أكثر القضايا إلحاحًا اليوم: كيف يمكن للثقافة، بما فيها من فنون وأفكار وتخييل وإبداع، أن تتحول إلى صناعة قادرة على النمو، والتأثير، والتصدير، والمساهمة في الاقتصاد، دون أن تفقد جوهرها الجمالي والإنساني
كتب: سيد عبد الرازق
في زمن تتسارع فيه التحولات التقنية وتتبدل فيه مفاهيم الإنتاج الثقافي بوتيرة غير مسبوقة، صدر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالاشتراك مع أكاديمية الفنون كتاب "الصناعات الثقافية والمسرح"؛ ليطرح رؤية موسوعية متماسكة حول واحدة من أكثر القضايا إلحاحًا اليوم: كيف يمكن للثقافة، بما فيها من فنون وأفكار وتخييل وإبداع، أن تتحول إلى صناعة قادرة على النمو، والتأثير، والتصدير، والمساهمة في الاقتصاد، دون أن تفقد جوهرها الجمالي والإنساني؟
الكتاب مشروع فكري واسع يحاول فهم موقع الثقافة والمسرح داخل منظومة الإنتاج المعرفي والإبداعي في العالم الحديث، ويتناول مفاهيم جديدة أصبحت اليوم جزءًا من قاموس الواقع الثقافي، مثل الهندسة الثقافية، والملكية الفكرية، والتحول الرقمي، والموسيقى الكونية، وصناعة الفنون الإبداعية، وتعليم الموهبة، والإبداع التكنولوجي، وعلامات التمثيل، وغيرها مما يشكل ملامح المشهد الثقافي الراهن.
الكتاب من تاليف أ.د. مدحت الكاشف، أحد أبرز الأكاديميين العرب في مجالي المسرح والدراسات الثقافية، وفي تقديمه المكثف للكتاب، يعبر الكاشف عن رؤية فلسفية تتعامل مع الثقافة باعتبارها منظومة إنتاج تتجاوز حدود المعرفة البحتة، وتدخل في صلب الاقتصاد والإبداع وتشكيل الوعي.
يشدد الكاشف على أنّ العصر الرقمي أعاد تعريف مفاهيم الإبداع، وأن الثقافة لم تعد ترفًا أو نشاطًا هامشيًا، وإنما أصبحت قطاعًا إنتاجيًا مؤثرًا، تتداخل فيه الفنون والتقنية والاقتصاد والسياسات العامة.
وتأتي لغته في المقدمة لتؤكد هذا الاتجاه؛ إذ يتحدث عن ثقافة الكون، والهندسة الثقافية، والتداخل الإبداعي، والإنسان المنتج للمعرفة، وهي مفاهيم تكشف عن خلفية فكرية تؤمن بأن الثقافة اليوم قوة فاعلة لا تقل شأنًا عن الاقتصاد والسياسة.
ويستعرض الكتاب الممتد على عشرات الصفحات طبيعة العمل، إذ يشمل نحو 60 موضوعًا يتدرج من مفاهيم نظرية إلى تحليلات تطبيقية قريبة من التجربة المسرحية والواقع الإبداعي العربي. ومن أبرز ما تناوله الكتاب الأسس النظرية للصناعات الثقافية؛ إذ يتناول المؤلف مفاهيم الثقافة، وفلسفة وثقافة الكون، والهندسة الثقافي، والملكية الفكرية، وحقوق الإنسان الثقافية، والتحول الرقمي. هذه الموضوعات تؤسس لبنية معرفية تساعد القارئ على فهم التحولات الكبرى التي تشهدها الثقافة في زمن التكنولوجيا.
كما يتناول الكتاب الإبداع والصناعات الإبداعية؛ حيث يعالج العلاقة بين الإبداع وصناعة الفنون، ويقدم تحليلاً لحرية الإبداع، والبحث العلمي، وتعليم الفنون، ومسارات الفن المعاصر، والإنتاج الفني، ويبرز كيفية تحول الفن إلى صناعة لها أدواتها وقوانينها، دون أن تفقد الروح الخلاقة.
ولا يغفل الكاشف عن سبر أغوار المسرح في عالم التحولات الرقمية، فيخصص عددًا من الموضوعات يناقش فيها موقع المسرح في هذا العالم بالغ التطور، وأيضًا يناقش توظيف الإبداع الرقمي في العرض المسرحي، وتطور الرؤية الجمالية في المسرح المعاصر، وتداخل النوع في المسرح العربي والأفريقي، وعلامات التمثيل المعاصرة وتقنية الأداء.
أما عن تعليم الفنون المسرحية وتطوير الأداء؛ فيتضمن الكتاب مقالات تطبيقية حول تعليم فن التمثيل، والمنهج العلمي، وتدريب الممثل، وعلامات الأداء في المسرح المصري، إضافة إلى قراءات نقدية لعروض معاصرة ومهرجانات عالمية، ويختتم بتحليلات للمشهد الراهن ورؤية للمستقبل الثقافي والمسرحي، مع اهتمام خاص بعلاقة الإبداع بالتكنولوجيا وضرورة تجديد أساليب التعليم الفني، وطرح سؤال جوهري حول ضرورة تعليم الإبداع.
يمتاز الكتاب بشمولية موسوعية؛ إذ يغطي الكتاب طيفًا واسعًا من الأفكار التي لا تجتمع عادة في كتاب واحد؛ فهو يجمع بين الفلسفة الثقافية، والاقتصاد الإبداعي، والدراسات المسرحية، والتحليل الفني والتربوي، كما أن هناك اتصالًا وثيقًا بالتطبيق، فرغم الطابع النظري، إلا أنّ المؤلف يوازن ذلك بقراءات تطبيقية لعروض مسرحية، وتجارب تعليمية، وتظاهرات فنية، وقضايا إنتاجية معاصرة÷ هذا إضافة إلى لغة مكثفة ورؤية مستقبلية؛ لتأتي لغة الكتاب مشغولة برؤية حداثية ترى أنّ الثقافة قوة محركة، وأنّ الفن - وخاصة المسرح - قادر على إعادة تشكيل وعي الإنسان وتحويله إلى فاعل ثقافي وإبداعي في خطاب موجه للقارئ العام والمتخصص؛ حيث يمتاز العمل بأنه يخاطب الباحث والطالب والفنان وصانع القرار الثقافي في وقتٍ واحد، دون أن يفقد توازنه العلمي أو سلاسته.
يمثل كتاب "الصناعات الثقافية والمسرح" إضافة مهمة إلى مكتبة الدراسات الثقافية العربية، فهو بجانب ما يقدم من معرفة نظرية، يعيد طرح أسئلة جوهرية حول العلاقة بين الفن والصناعة، بين الموهبة والتقنية، وبين التكنولوجيا والإنسان، ويمكن القول إن العمل يشكل مرجعًا تأسيسيًا لكل من يريد فهم موقع المسرح داخل منظومة الصناعات الإبداعية، كما يقدم تصورًا مستقبليًا لا يكتفي بالتحليل، ولكن يدعو إلى إعادة بناء رؤيتنا للتعليم الفني، والإنتاج المسرحي، ولأدوار الفرد والمجتمع والمؤسسات الثقافية.


