الوحشية البيضاء: إعادة قراءة التاريخ العالمي من منظور العنف المؤسس

تحليل معمّق لكتاب White Ferocity الذي يكشف جذور الحداثة الغربية في الإبادة والاستعمار والعبودية، ويربط بين العنف الأوروبي من 1492 حتى اليوم، وصولاً إلى النازية والعنصرية الأمريكية المعاصرة، وفق قراءة فلسفية وسياسية جذرية تقدّم فهماً جديداً للعالم الحديث.

نوفمبر 26, 2025 - 11:20
 0
الوحشية البيضاء: إعادة قراءة التاريخ العالمي من منظور العنف المؤسس

 كتب باسم الموسوي:

يشكّل كتاب White Ferocity: The Genocides of Non-Whites and Non-Aryans from 1492 to Date للكاتبة روزا أميليا بلميل-أوريبي عملاً فكرياً جذرياً يعيد قراءة العالم الحديث بوصفه امتداداً لسلسلة طويلة من الإبادات والاستغلالات المنظمة التي مارستها القوى الأوروبية منذ لحظة دخولها القارة الأمريكية سنة 1492. لا يتعامل الكتاب مع تلك اللحظة بوصفها “اكتشافاً” أو “اتصالاً بين عالمين”، بل بوصفها نقطة تأسيسية لعالم جديد بُني على الإقصاء العرقي، وتدمير الشعوب الأصلية، وتحويل البشر إلى مادة اقتصادية قابلة للبيع والاستثمار والإتلاف، وهي لحظة يعتبرها المؤلفون في المقدمة، كما يوضح سمير أمين في تقديمه للطبعة الإنجليزية، بداية تشكّل الرأسمالية الحديثة بكل ما حملته من عنف بنيوي منظّم حُفر في قلب النظام العالمي الناشئ آنذاك.

منذ الصفحات الأولى للكتاب (ص. 1–26)  ، تنطلق الكاتبة من حدث الإبادة الواسعة التي طالت السكان الأصليين للأمريكتين، وتصفه باعتباره عملاً مؤسساً للحداثة الغربية وليس حادثة معزولة في تاريخ التوسع الإمبراطوري. فالعنف الذي مارسته الجيوش الأوروبية ضد القبائل والشعوب الأصلية لم يكن نتيجة صدام ثقافي وحسب، بل كان خطوة محسوبة ضمن مشروع لإحلال منظومة اقتصادية جديدة تستند على الإخضاع الكامل للأرض والسكان، وإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية بما يجعل وجود الشعوب الأصلية نفسه عقبة أمام حركة “التقدم” التي تصوّرتها أوروبا لنفسها. ومع انتقال الحركة الاستعمارية من الإبادة المباشرة إلى استيراد العمالة القسرية من أفريقيا عبر تجارة العبيد (ص. 27–58)، يتضح أن ما جمع هذه الممارسات هو منطق واحد: تحويل البشر إلى “قطع” و“بضاعة” و“ثروة متحركة”، وهي لغة موثّقة بشكل صادم في أرشيفات تجارة العبيد، وتستعيدها الكاتبة من خلال إشارات عديدة إلى تجارب جزيرة غوريه وما كانت تمثله من مركز تجاري للاتجار بالبشر.

وتبرز ثورة سان دومينغ (ص. 59–68) بوصفها نقيضاً جذرياً لهذا النظام، إذ تروي الكاتبة كيف تحولت الجزيرة إلى مسرح لانفجار مقاومة عبيد سابقين استطاعوا، من خلال التنظيم والتمرد الجماعي، كسر واحدة من أكثر منظومات العنف الاستعمارية صلابة، وإقامة أول دولة سوداء في التاريخ الحديث. غير أن هذا الانتصار، في نظرها، لم يغيّر من البنية الكبرى للعالم، بل كشف أن العنف الأوروبي لم يكن مجرد سياسة استعمارية بل كان رؤية للعالم تقوم على التفوّق العرقي، تطورت لاحقاً في القرن التاسع عشر إلى “علم” متكامل بُنيت عليه نظريات “العرق المتفوق”، كما تُظهره الكاتبة في القسم الثاني (ص. 91–147) الذي يعرض تحوّل الأفكار العنصرية إلى منظومة فكرية تُدرّس في الجامعات وتبرر الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية.

وتتميّز أطروحة الكتاب بجرأتها في الربط بين هذا التاريخ الطويل وبين النازية، ليس بوصفها انحرافاً أو قطيعة، بل بوصفها الاستمرار المنطقي لقرون من العنف الذي مارسته أوروبا خارج حدودها قبل أن تعود، كما تقول بلميل-أوريبي، “لتطبّق الأدوات نفسها على داخلها”. يذهب سمير أمين في مقدمته (ص. ix–xvi)   إلى أن “الخطأ” الذي ارتكبته النازية، في نظر الوعي الأوروبي، ليس في القتل الجماعي نفسه، بل في أنّ الضحايا كانوا أوروبيين، مما كشف للأوروبيين ما كانت الشعوب المستعمَرة تعرفه منذ قرون: أن الحداثة الغربية اقترنت بآلة عنف هائلة تمتد جذورها إلى اللحظة التي تحوّل فيها العالم إلى سوق استعمارية واحدة. وتتابع الكاتبة هذا الربط لتبيّن أن التمييز بين “جرائم الاستعمار” و“جرائم النازية” هو في جوهره تمييز سياسي لا أخلاقي، وأن البنية الفلسفية التي قامت عليها النازية قد استمدّت عناصرها من نفس التراث الذي أنتج الاستعباد والإبادة والتمييز العرقي.

وفي معرض تحليلها للولايات المتحدة، تكشف الكاتبة، في فصلها حول “التقليد العنصري الأمريكي” (ص. 147–181)، أن النظام الأمريكي لم يتخلّ يوماً عن إرثه الاستعماري. فالدولة التي قامت على محو الهنود الحمر وسلب أراضيهم، واعتمدت لعقود على عبودية الأفارقة، حافظت بعد التحرر الشكلي على منظومة قانونية واجتماعية تستمر في تحويل السود إلى مواطنين ناقصي الحقوق، من خلال الفصل العنصري والإعدام خارج القانون وإدارة نظام قضائي شديد التحيّز. هذا التحليل يتقاطع مع ما يقدمه سمير أمين في مقدمته من اعتبار أن العنف العنصري في أمريكا لم يكن نتاج تاريخي عابر، بل جزء من تكوين المجتمع نفسه وبنيته الاقتصادية.

وتصل الكاتبة في القسم الثالث (ص. 197–241) إلى أطروحتها الأكثر حساسية، حين تنتقد بشكل مباشر الطريقة التي تعاملت بها أوروبا مع النازية بعد الحرب العالمية الثانية. فشعار “لن يتكرر ذلك أبداً” الذي رُفع بعد 1945، تقول بلميل-أوريبي، لم يكن يعني أن الإبادة يجب أن تتوقف عالمياً، بل يعني أنها يجب ألا تمارس داخل أوروبا مرة أخرى ضد “الأوروبيين”. وتقدم أمثلة على ذلك من سياسات الاستعمار المتبقية، ومن الدعم الغربي لأنظمة مثل نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ومن السلوك السياسي الذي استمر في رؤية غير الأوروبيين بوصفهم “قابلين للتضحيات” في الحروب والتدخلات العسكرية الحديثة. وتشير الكاتبة في فصول متعددة إلى أن أوروبا نجحت في تحويل الهولوكوست إلى حدث فريد يُعفى من خلاله التاريخ الأوروبي من مسؤولية قرون من الإبادات، عبر القول بأن ما جرى في الحرب العالمية الثانية “غير مسبوق”، متجاهلة أن غير البيض كانوا ضحايا لممارسات مماثلة طوال خمسة قرون.

وتتجاوز أهمية الكتاب حدود سجالات التاريخ، لأنه يقدّم إطاراً تفسيرياً لفهم الحداثة نفسها، بوصفها مشروعاً جمع بين التقدم العلمي والتنظيم السياسي من جهة، وبين عنف مؤسس يقوم على تحويل الشعوب إلى مواد قابلة للاستغلال من جهة أخرى. فالعالم الذي نعيش فيه اليوم لا يمكن فصله، بحسب الكاتبة، عن هذا الإرث الذي بدأ بالإبادة في الأمريكتين مروراً بالعبودية والاستعمار ووصولاً إلى العنصرية المؤسسية المعاصرة. وهكذا تصبح الحداثة الغربية مشروعاً مزدوجاً: مشروعاً للتحرّر والتقدم، ولكنه أيضاً مشروع صُنع على أساس الدم، واحتاج إلى “الآخر” غير الأبيض ليبني ذاته ويرسّخ تفوقه.

إن أطروحة الوحشية البيضاء لا تهدف فقط إلى إعادة فتح جروح الماضي، بل إلى إعادة تعريف الأسئلة التي يجب أن تُطرح حول العدالة والذاكرة والتاريخ. فالسؤال الذي تطرحه الكاتبة ليس: ما الذي فعلته أوروبا بالآخرين؟ بل: كيف بُني العالم على هذا الفعل؟ وكيف استمرت البنى التي نشأت مع الاستعمار في تشكيل السياسة المعاصرة والعلاقات الدولية والاقتصاد العالمي؟

بهذا المعنى، لا يقدم الكتاب مجرد سرد للجرائم، بل يقدم تفسيراً فلسفياً وسياسياً للعالم الحديث، ويحثّ القارئ على إعادة التفكير في تاريخ ظُنّ طويلاً أنه فصل منتهٍ. فالمسألة ليست في أن أوروبا ارتكبت جرائم، بل في أن تلك الجرائم كانت ـ كما يظهر من القرون الخمسة الأخيرة ـ جزءاً من بنية الحداثة نفسها، وليست انحرافاً عنها. ولذلك فإن قراءة هذا الكتاب ليست مجرد رحلة في الماضي، بل هي مواجهة مباشرة مع الحاضر الذي ما زال يحمل آثار تلك الوحشية في جوانب متعددة من السياسات الدولية والعنصرية والبنى الاقتصادية، مما يجعل أطروحته، رغم حدّتها، جزءاً من نقاش عالمي متصاعد حول ذاكرة العنف ودور أوروبا التاريخي في تشكيل عالم لا يزال يبحث عن العدالة.