القرآن الأوروبي؟

يكشف المقال مفهوم "القرآن الأوروبي" من خلال تتبّع حضور القرآن في تاريخ أوروبا الثقافي والديني عبر الأندلس والبلقان وشرق أوروبا، مستندًا إلى مشروع EuQu الأوروبي. يوضح كيف شكّلت الترجمة، والنسخ، والممارسات التعليمية والطقسية حضورًا قرآنيًا متجذرًا في الذاكرة الأوروبية، وكيف يعيد البحث الحديث قراءة علاقة أوروبا بالإسلام بعيدًا عن السرديات التقليدية.

نوفمبر 21, 2025 - 08:55
 0
القرآن الأوروبي؟

 كتب باسم الموسوي:

تبدو عبارة “القرآن الأوروبي” للوهلة الأولى تركيبًا غريبًا أو حتى متناقضًا، إذ تجمع بين نصٍّ عربيٍّ مقدّس نزل في بيئة عربية إسلامية في القرن السابع الميلادي، وبين فضاء ثقافي طالما عُرِّف – في وعيه الذاتي وفي خطاباته الكبرى – بوصفه فضاءً مسيحيًا أو علمانيًا ذا جذور يونانية–رومانية. لكن هذه الغرابة تتلاشى حين نعيد قراءة التاريخ بعيون أقلّ انتقائية، ونعيد النظر في السرديات الكبرى التي صاغت صورة أوروبا عن نفسها، وفي موقع الإسلام عمومًا والقرآن خصوصًا في تاريخ هذا القارّة ومخيالها الثقافي والديني والسياسي. من هنا يأتي السؤال: هل يمكن للمرء أن يتحدث فعلًا عن “قرآن أوروبي”، ليس بوصفه نصًا جديدًا أو بديلًا، بل بوصفه تجليات خاصة لنص واحد في سياقات اجتماعية وثقافية وسياسية أوروبية؟

هذا السؤال ليس مجرد تمرين ذهني، بل هو لبّ المشروع العلمي الكبير الذي أطلقه الاتحاد الأوروبي عبر تمويله لمشروع The European Qur’an (EuQu)، وهو المشروع الذي صدر في سياقه كتاب European Muslims and the Qur’an: Practices of Translation, Interpretation, and Commodification، حيث يصرّ محرّرا الكتاب، Gulnaz Sibgatullina و Gerard Wiegers، منذ الصفحات الأولى، على أنّ هذا العمل جزء من مبادرة بحثية أوروبية تهدف إلى إعادة بناء علاقة أوروبا التاريخية بالإسلام من منظور أكثر شمولًا وإنصافًا، بعيدًا عن النظرة الضيقة التي تختزل الإسلام في الهجرة الحديثة أو في الجدل السياسي المعاصر.

يطرح الكتاب – ويرتبط به هذا المقال – فكرة جوهرية: أن وجود القرآن في أوروبا ليس حدثًا طارئًا، ولا ظاهرة مرتبطة بالهجرة الحديثة، بل هو حضور ممتدّ يسبق الحداثة بقرون طويلة، وقد انطبع في ذاكرة أوروبا عبر المخطوطات والترجمات والجدل اللاهوتي، كما عبر التقاليد التربوية والطقسية والممارسات الاجتماعية التي أنتجتها مجتمعات مسلمة عاشت داخل أوروبا أو عند حدودها المباشرة. وهكذا فإن البحث في “القرآن الأوروبي” ليس محاولة لتغريب النص، بل محاولة لإعادة إدراج القرآن داخل تاريخ لم يُعطَ له حقّه في السرديات الأوروبية الرسمية.

من أجل ذلك، لا بدّ من تفكيك التصورات التي طالما صُوِّرت على أنها مسلّمات: أوروبا ليست جزيرة مغلقة ذات هوية دينية واحدة، بل هي فضاء تراكبت فيه هويات وثقافات، وتنافست فيه قوى سياسية وإمبراطوريات، واحتكت فيه الأديان من خلال التعايش والمنافسة والصراع أيضًا. في هذا الفضاء المتعدد، عاش المسلمون في الأندلس ثمانية قرون، وتواجدوا في البلقان والبوسنة منذ القرون الوسطى، واستقرّ التتار المسلمون في ليتوانيا وبولندا منذ القرن الرابع عشر، وشكّل مسلمو داغستان والقرم وروسيا الداخلية جزءًا أصيلًا من نسيج أوروبا الشرقية. هذه الجماعات لم تكن مجرد أقليات على هامش التاريخ، بل كانت فاعلة في بناء تقاليد قرآنية مميزة: نسخت المصاحف بخطوط محلية وزخارف خاصة، وترجمت القرآن بلغاتها، وابتكرت طرائق في التدريس والحفظ، وشاركت في إنتاج ثقافة قرآنية أوروبية الطابع.

ومن هنا يصبح مفهوم “القرآن الأوروبي” تعبيرًا عن شبكة ممارسات حيّة، لا عن نص مستقل. فالقرآن الأوروبي هو القرآن ذاته، لكنه وقد انطبع في سياقات جديدة: في مخطوطات موريسكية كُتبت بالعربية والقشتالية معًا؛ في مصاحف بوسنية تتناغم فيها الزخارف العثمانية مع محلية بصرية خاصة؛ في تفاسير تترية مزجت التراث الفقهي الحنفي بالمفردات اللغوية المحلية؛ في ترجمات بولونية وليتوانية سعت إلى جعل القرآن جزءًا من اللغة القومية الناشئة. وهو كذلك القرآن الذي دخل فضاء الطباعة الأوروبية باكرًا، لا ككتاب غريب، بل كمادة معرفية وتاريخية ولغوية جرى تكييفها وفق حاجات القرّاء الأوروبيين، سواء المسلمين أو غير المسلمين.

وتكتسب هذه الممارسات معنى أعمق حين نفهم التحوّل في معنى “أوروبي” نفسه. فقد تغيّر هذا المفهوم عبر القرون، من دلالة جغرافية فضفاضة إلى دلالة دينية (مسيحية نموذجية)، ثم إلى دلالة حضارية–سياسية في عصر القوميات والاستعمار، وصولًا إلى دلالة قانونية–حقوقية مع صعود الاتحاد الأوروبي. وفي كل مرحلة كان الإسلام يتخذ موقعًا مختلفًا: أحيانًا خصمًا، أحيانًا جارًا، أحيانًا موضوعًا للمعرفة، وأحيانًا جزءًا من نسيج المجتمع. لذلك فإن السؤال عن “القرآن الأوروبي” هو في أحد مستوياته سؤال عن أوروبا نفسها: كيف تعرّف ذاتها، وكيف تفهم حدودها، وكيف تقرأ تاريخها؟

وفي مقابل التحوّل في معنى “أوروبي”، يتبدّل معنى “القرآني” أيضًا من حيث الممارسة – لا من حيث النص – فالقرآن في أوروبا اكتسب وظائف جديدة: صار نصًا للاحتجاج السياسي بين المورسكيين، وصار أداة لتشكيل الهوية القومية عند التتار، وصار رمزًا للتبرّك في داغستان، وصار مادة جدلية في الحوارات اللاهوتية المسيحية، وصار لاحقًا موضوعًا للدراسة الأكاديمية في جامعات أوروبا. لقد تنقّل القرآن بين فضاءات متعددة: من المساجد إلى البيوت، ومن المخطوطات إلى الكتب المطبوعة، ومن التجويد الشفهي إلى التسجيل الصوتي، ومن التلاوة الطقسية إلى القراءة الفردية التي رسّختها الحداثة. كل هذه التحولات جزء من “الأوروبية القرآنية” بمعناها الثقافي والاجتماعي.

إن قيمة هذا الطرح لا تكمن في محاولة صهر القرآن داخل هوية أوروبية مسبقة، بل في إعادة النظر في الهوية الأوروبية ذاتها: أوروبا ليست هوية صافية أو مغلقة، بل هي نتاج الاحتكاك الطويل مع الثقافات المجاورة والممتدة. ومن خلال دراسة تفاعلات المسلمين الأوروبيين مع القرآن عبر القرون، يتضح أن الإسلام كان دائمًا جزءًا من تشكيل أوروبا، سواء اعتُرف بذلك أم أُهمل. هنا يصبح الحديث عن “قرآن أوروبي” دعوة لتجاوز الثنائية الساذجة بين “إسلام” و“غرب”، ولرؤية التاريخ المشترك عوضًا عن التاريخ المتقابل.

في نهاية المطاف، لا يدّعي أحد أن القرآن نصّ أوروبي المنشأ، فالنص عربي الهوية والتاريخ، لكن الأوروبيين – مسلمين وغير مسلمين – أنتجوا عبر القرون طرقًا خاصة في قراءته وترجمته وتعليمه، وصاغوا حوله خطابًا معرفيًا وثقافيًا متشابكًا. بهذا المعنى، يصبح “القرآن الأوروبي” ليس نصًا آخر، بل تاريخ علاقة: علاقة بدأت منذ الأندلس، واستمرت عبر البلقان وشرق أوروبا، وتجدّد حضورها اليوم مع النقاشات الواسعة حول الإسلام في أوروبا المعاصرة.

بهذا تكتمل صورة أكثر ثراءً وتعقيدًا: القرآن ليس غريبًا عن أوروبا، ولا أوروبا غريبة عنه؛ كلاهما شكّل الآخر بطريقة أو بأخرى. وما مبادرة الاتحاد الأوروبي لتمويل مشروع EuQu إلا دلالة على رغبة سياسية–معرفية لاستعادة هذا التاريخ المنسي وإعادة دمجه في صورة أوروبا الحديثة. ولذلك فإن السؤال “هل هناك قرآن أوروبي؟” ليس سؤالًا عن النص، بل عن الذاكرة: أيّ أوروبا نريد أن نتذكر؟ وأيّ مكان نريد أن نعطيه للقرآن داخل سرديتنا المشتركة؟