الميرزا النائيني وفلسفة الدولة الإسلامية: قراءة في خطاب الإمام الخامنئي (2025)
خبر من Goodpresslb
كتب باسم الموسوي:
مقدمة
يُعَدّ آية الله الميرزا محمد حسين النائيني (1860–1936) أحد أبرز رواد التجديد في الفكر الشيعي الحديث، ومفكّراً فقهياً جمع بين عمق المدرسة الأصولية في النجف ووعي سياسي مبكر تجاه مفهوم الدولة الإسلامية. وقد أعاد الإمام السيد علي الخامنئي، في خطابه بتاريخ 22 تشرين الأول 2025 أمام القائمين على المؤتمر الدولي لإحياء ذكرى النائيني، الاعتبار إلى هذا المفكر الكبير، مؤكدًا أنّه «فقيه استثنائي وركن رفيع من أركان حوزة النجف العريقة»، وأنّ فكره ما يزال مفتاحًا لفهم العلاقة بين الفقه والسلطة والرقابة الشعبية في الإسلام.
أولًا: النائيني المجدِّد في علم الأصول
يرى الإمام الخامنئي أنّ النائيني لم يكن مكرّراً لأسلافه، بل أعاد هيكلة علم الأصول بمنهج عقلي منظم يربط المسائل بمقدماتها الفكرية، ويعرضها بترتيب منطقي غير مسبوق.
تميّز أسلوبه بالجمع بين الدقة النظرية والبيان البليغ، حتى أصبح درسه في النجف من «الدرجة الأولى» بعد درس الآخوند الخراساني. وقد جذب إليه طلبةً من العرب والفرس على حدّ سواء، لِما امتاز به من وضوح، وتنظيم، وانفتاح على المناهج الحديثة في التحليل الفقهي.
ويُظهر هذا الجانب أنّ النائيني لم يكن مجرّد عالم تقليدي، بل عقل مؤسِّس لمرحلة جديدة من التفكير الأصولي، حيث تحوّل النص إلى بنيةٍ حيةٍ تتفاعل مع الواقع السياسي والاجتماعي، لا إلى قالب جامد.
ثانيًا: مدرسة صناعة العلماء
من بين السمات التي أبرزها الإمام الخامنئي في حديثه أنّ النائيني كان معلّمًا للأجيال ومربّيًا للمراجع.
فقد تخرّج على يديه معظم أعلام النجف في القرن العشرين: السيد أبو القاسم الخوئي، السيد محسن الحكيم، السيد عبد الهادي الشيرازي، الشيخ حسين الحلّي، الميرزا حسن البجنوردي وغيرهم.
ويؤكد الخامنئي أنّ هذه القدرة على إنتاج التلامذة البارزين تمثل بعدًا جوهريًا في شخصية النائيني، إذ لم يكتف بالاجتهاد النظري، بل بنى مدرسةً قائمةً على التفكير النقدي والانضباط المنهجي، بما جعل فكره يمتدّ عبر الأجيال.
ثالثًا: الفكر السياسي بين الفقه والحداثة
يعتبر الإمام الخامنئي أنّ أعظم ما ميّز الميرزا النائيني هو امتلاكه فكرًا سياسيًا مؤصَّلًا فقهياً، لا مجرد «ميلٍ سياسي».
ففي وقتٍ كانت فيه الحوزة متأثرة بأصداء الصحافة المصرية والشامية وأفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، كان النائيني يتجاوز سطح الاهتمام بالشأن السياسي ليُؤسس رؤيةً متكاملةً للدولة الإسلامية.
ويُجسّد كتابه الشهير تنبيه الأمة وتنزيه الملة هذا الوعي، إذ طرح فيه نموذجًا متقدّمًا لنظام الحكم الإسلامي على أسسٍ عقلية وشرعية دقيقة.
رابعًا: ملامح نظرية الحكم عند النائيني
أعاد الإمام الخامنئي في خطابه تفكيك البنية النظرية التي وضعها النائيني في تنبيه الأمة، محدّدًا أربع ركائز مركزية:
1. وجوب إقامة الحكومة الإسلامية
النائيني يرى أنّ إقامة الدولة الإسلامية واجب ديني، وأنّ تعطيلها يُعدّ إخلالاً بواجبات الأمة. ورغم أنه لم يحدّد شكلها المؤسسي النهائي، فإنه أكد على ضرورة قيامها لحماية الشريعة من الاستبداد.
2. الولاية بوصفها جوهر الحكم
يميّز النائيني بين «الحكومة الولائية» و«الملكية الاستبدادية»، ويجعل من الولاية مبدأً يحكم علاقة السلطة بالأمة. والولاية عنده ليست استبدادًا باسم الدين، بل مسؤولية شرعية قائمة على العدالة والمحاسبة.
3. الرقابة الشعبية والمؤسسات المنتخبة
يؤمن النائيني بأنّ الأمة شريكة في الرقابة على الحاكم، عبر مجلسٍ يُسمّيه «مجلس المبعوثين»، وهو ما يعادل في المفهوم الحديث البرلمان المنتخب.
يقرّر أنّ شرعية هذا المجلس تظلّ مشروطة بمصادقة العلماء، أي وجود سلطةٍ علميةٍ تراقب التشريع وتحميه من الانحراف، على نحوٍ يشبه مجلس صيانة الدستور في الجمهورية الإسلامية اليوم.
4. الانتخاب واجب شرعي
يرى النائيني أنّ المشاركة الشعبية في اختيار الممثلين واجبة من باب «مقدّمة الواجب»، إذ هي وسيلة لتحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هذا الربط بين الفقه والمشاركة السياسية كان ثورة فكرية حقيقية في بيئةٍ لم تعتد أن تجعل من «الانتخاب» واجبًا دينيًا.
خامسًا: الجمهورية الإسلامية امتداد لفكر النائيني
يلاحظ الإمام الخامنئي أنّ النظرية التي رسمها النائيني في مطلع القرن العشرين تتطابق في جوهرها مع مفهوم “الجمهورية الإسلامية” المعاصر:
فهي حكومة إسلامية في المبدأ، وشعبية في البنية، قائمة على المحاسبة، وتستمدّ شرعيتها من تلاقي الإرادة الشعبية مع المرجعية الدينية.
بهذا المعنى، يشكّل النائيني حلقة الوصل بين الإصلاح الدستوري الإيراني في مطلع القرن العشرين وثورة الإمام الخميني عام 1979، أي بين الفقه السياسي الكلاسيكي وفكر الدولة الحديثة.
سادسًا: الظلم التاريخي وطمس الإرث الفكري
يلفت الإمام الخامنئي إلى أنّ تنبيه الأمة تعرّض للتعتيم وسُحب من التداول بفعل ظروف سياسية معقدة.
ويُرجع ذلك إلى تحوّل الثورة الدستورية (المشروطة) التي دعمها النائيني والآخوند الخراساني إلى مشروعٍ انحرف عن أهداف العدالة الإسلامية، حين تسلّل إليه النفوذ البريطاني وتحول إلى أداةٍ لإضعاف العلماء.
لم يكن سحب الكتاب إذن تراجعًا علميًا، بل موقفًا نقديًا من انحراف مسارٍ سياسيٍّ كان في بدايته مشروعًا للإصلاح، فانتهى إلى خدمة الاستعمار.
وهنا تبرز بصيرة النائيني، الذي أدرك أنّ العدالة لا تُقام بالشعارات الدستورية إذا فقدت روحها الدينية والأخلاقية.
سابعًا: البعد الروحي والمعرفي
يُكمل الإمام الخامنئي رسم ملامح النائيني الروحية، فيذكر زهده، وورعه، وصلاته الليلية العميقة التي رآها شهود معاصروه، كما يشير إلى اتصاله بأعلام العرفان كالملا حسين قلي الهمداني والميرزا مهدي الأصفهاني.
ويمثّل هذا البعد بعدًا حاسمًا في فكر النائيني: فالعقلانية الأصولية عنده لا تنفصل عن التجربة الروحية، بل تستمد منها نورها، فيتحوّل الاجتهاد إلى عبادةٍ فكرية غايتها إصلاح المجتمع لا مجرّد الجدل النظري.
ثامنًا: دعوة إلى الإحياء والتجديد
اختتم الإمام الخامنئي خطابه بالدعوة إلى إحياء تراث النائيني في قم والنجف ومشهد، معتبرًا أنّ من واجب الحوزات إبراز فكره السياسي والاجتماعي كما أبدع في تجديد الأصول والفقه.
وأشاد بالمبادرات العلمية التي قامت في مشهد بجهود السيد الميلاني والميرزا مهدي الأصفهاني، اللذين أعادا طرح أفكار النائيني بعد أن غلبت عليها مدرسة الآخوند الخراساني.
بهذا، تتحول الدعوة إلى الإحياء إلى مشروع معرفي معاصر يربط بين العقل الأصولي والإصلاح السياسي في ضوء التجربة الإسلامية الحديثة.
خاتمة
تكشف قراءة الإمام الخامنئي للميرزا النائيني عن تلاقي العمق الفقهي مع الوعي السياسي في إطار نظرية متكاملة للدولة الإسلامية.
فالنائيني لم يكن فقط فقيهًا منضبطًا بالمنهج، بل كان فيلسوفَ عدالةٍ إسلاميةٍ حديثة، سعى إلى التوفيق بين سلطة الشريعة وإرادة الأمة.
إنّ فكره يفتح الباب أمام إعادة تعريف العلاقة بين الفقه والديمقراطية، بين المرجعية والشعب، بين النص والحرية.
ولهذا قال عنه الإمام الخامنئي بحق:
«المرحوم النائيني فقيه استثنائي وركن رفيع من أركان حوزة النجف العريقة؛ التجديد، وبناء الهيكلية، وتربية التلامذة، والفكر السياسي هي من سماته البارزة».
إنّ هذه الكلمات ليست مجرد تكريمٍ لعالمٍ راحل، بل إشارةٌ إلى مسارٍ معرفيٍّ ما زال مفتوحًا أمام الفكر الإسلامي المعاصر: كيف يمكن أن تبقى الدولة وفيةً للشريعة دون أن تنفصل عن الأمة، وكيف يمكن أن يُعيد الفقه صياغة السياسة على قاعدة العدالة والمسؤولية والحرية الملتزمة.
ومن هنا تتجدّد الحاجة إلى قراءة الميرزا النائيني لا كشخصية تاريخية، بل كـ«نقطة انطلاق» نحو مشروع إسلامي يجمع بين الاجتهاد، والمشاركة، والولاية، والرقابة الشعبية — أي نحو دولةٍ تتّحد فيها الروح والمجتمع تحت راية العدالة.