حين نضحك على الخشبة… وينزف القناص في داخلنا!!
في خيال صحرا، لا يقدّم جورج خباز القنّاص كوحش، بل كإنسان صُنع من تنمّر وخذلان وأحلام بسيطة انتهت على المتراس. العمل يحفر في الذاكرة اللبنانية، كاشفًا كيف تحوّل ضحايا الحرب إلى أدواتها، ثم إلى حراس فقرها. كوميديا سوداء تضحك الجمهور، لكنها تتركه أمام أسئلة موجعة عن الذنب، والانتماء، والخذلان السياسي. ويأتي الأداء المسرحي لعادل كرم ليضيف نكهة خاصة، عزّزت التوتر الإنساني وعمّقت الأثر العاطفي، فصار الضحك أقرب إلى دمعة.
كتبت هناء بلال
ما يفعله جورج خبّاز في مسرحية «خيال صحرا» لا يشبه شيئًا آخر.
هو لا يقدّم حكاية عن الحرب بقدر ما يجرّدها من شعاراتها، ويعيدها إلى أصلها الأول: الإنسان.
العنوان الكبير هنا ليس القنّاص كوحش، بل الإنسان القنّاص. ذلك الكائن الذي سمعنا عنه في روايات أهلنا، وصوّروه لنا دائمًا كظلّ ملعون يتربّص بالحياة من خلف المتاريس.
خبّاز يزيح القناع، لا ليبرّر، بل ليكشف، خلف الفوهة قلب.. وخلف القسوة حكاية.. وخلف القتل حلم مشوّه لم يعرف طريقًا آخر.
وازدادت كثافة التجربة المسرحية حضورًا مع الأداء الاستثنائي لعادل كرم، الذي لم يكن مجرّد إضافة تمثيلية، بل ضخّ في العمل نكهة خاصة، جعلت الشخصية أكثر هشاشة وصدقًا، ووسّعت المسافة بين الضحكة وسؤال الوجع، فصار الجمهور شريكًا في النبض لا مجرد متفرّج.
هذا القنّاص ليس فكرة مجرّدة، بل سيرة
طفل تعرّض للتنمّر المدرسي، فتعلم مبكرًا أن العالم مكان قاسٍ.
شاب رفضته حبيبته، فشعر بأن رجولته ناقصة وبأن عليه إثباتها بأي ثمن.
أخ يحب شقيقاته، ويحلم أن يكون المنقذ، أن يخفّف عن أهله ثقل الحياة.
أحلامه بسيطة حدّ الألم: بيت في الضيعة، جلسة عائلية، اعتراف غير منطوق بقيمته.
في بحثه عن هذا الاعتراف، ينضم إلى الأحزاب، ويقف على متاريس و "يشبح" على ابواب الزواريب خلال الحرب. هناك، حيث تختلط القضايا الكبرى بالجروح الشخصية، ويتحوّل الإحباط إلى بندقية.
تمرّ صورة الأم الثكلى، وهي تتلقّى خبر استشهاد ابنها، كطعنة صامتة تذكّر بأن الحرب لا تنتج أبطالًا، بل خسارات متتالية.
ما بين خسارة وأخرى، يتقلّب القنّاص، وداخله إنسان لا يتوقف عن النبض:
يعرف الحب، يختبر الصداقة، يشعر بالتعاطف، ويخجل من نفسه أحيانًا.
وهنا تكمن قوّة النص في كتابة خباز له هو لا يبحث عن خلاص نهائي، بل عن تطهير، عن إعادة تشكيل صورة الفاجعة، لا كحدث تاريخي فقط، بل كجرح شخصي وجماعي في آن.
النهاية الذكية التي كتبها جورج خبّاز بقلمه، تحوّل قنّاص الأمس إلى رجل أمن اليوم، يقف على أبواب المصارف. المشهد ليس انتقالًا زمنيًا فقط، بل انتقال في وظيفة العنف: من متراس الحرب إلى حراسة الانهيار.
الأبواب نفسها، الخوف نفسه، والقتلة أنفسهم لكن ببدلات رسمية.
القنّاص ابن العيش المشترك
قبل أن يفيق على المتاريس، اختبر التعايش والانفتاح على الآخر، مع جاره" أبو أحمد" وعندما يغادر الأخير المنطقة بعد سلسلة مضايقات، يشعر القنّاص وكأنه خسر جزءًا من طفولته، من صداقته، ومن صورته الأولى عن العالم.
كيس البندورة يتحوّل إلى رمز
القنّاص الذي قتل رجلًا بريئًا، يقطع الشارع ليؤمّن قوت يومه ويعود الى عائلته يستعيد مع مرور الزمن تلك الصورة ليقف وجهًا لوجه مع أهل الضحية:
«هي عم تطلع فيّي… هي ما بتعرفني، بس أنا بعرف حالي».
جملة تختصر ثقل الذنب، واستحالة الغفران، ومحاكمة الذات التي لا تنتهي.
هو القنّاص الذي يشعر، يحب، ويحلم بضمّ الحبيبة، وهو ممزّق بين شعار يعلّق على كتفه وقلب لا يعترف إلا بضعفه:
«القضية ع راسي… بس هي بقلبي».
وهو نفسه الذي يعده زعيم الحزب بالمناصب والحياة الأفضل... يقف اليوم بجسد منحنٍ، يبحث عن دواء لزوجته المريضة. يقترب من زعيم الأمس الذي صار وزيرًا، ويعود بلا شيء سوى كلام منمّق ووعود فارغة.
هنا تتكثف الخيبة، ويتكشّف الخذلان بوصفه أحد أثقل ميراث للحرب.
في «خيال صحرا»، التنمّر المدرسي، الصداقة، الحب، الخذلان، الأمل، واليأس، كلّها عناصر متداخلة، مغلّفة بضحكة ذكية ونص مترابط يغلف بموسيقى تصنع حالة وجدانية تجعل الجمهور يعيش نشوة اللحظة داخل العمل الفني.
هي كوميديا في الشكل، لكنها تخرج محمّلة بأسئلة ثقيلة، وتترك إصبعها على الجرح دون ادّعاء العلاج.
ضحكنا… لكننا خرجنا ونحن نحمل معنا تساؤلات عن الإنسان، عن الحرب، عن الأحلام التي تمايلت لحظة ثم سقطت، وعن بلد ما زال يبحث، مثل أبطاله، عن أرض خفيفة يمكن أن يقف عليها دون أن ينكسر.


