واشنطن تقلب الطاولة: من "سايكس - بيكو" الى وحدة المصير السوري – اللبناني؟
تحليل معمّق لاستراتيجية الأمن القومي الأميركي لعام 2025 والتحوّل الجذري في مقاربة واشنطن للشرق الأوسط، مع التركيز على إعادة صياغة العلاقة مع لبنان وسوريا، ونهاية مرحلة سايكس–بيكو ودور توم براك في رسم ملامح المرحلة الجديدة.
كتب ميشال نصر في "الديار":
في السنوات التي تلت التحولات الكبرى في الشرق الأوسط، بدا المشهد وكأنه يدخل في زمن جديد يصعب فهمه وفق الأدوات التقليدية أو القواعد التي حكمت المنطقة منذ قرن. غير أن العام 2025 حمل معه إشارة مفصلية لافتة: الولايات المتحدة، التي تكاد تكون اللاعب الأكثر تأثيرا في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، قررت أخيرا أن تنظر إلى المنطقة بعيون مختلفة، وأن تعيد صياغة رؤيتها لما يجري، بعيداً عن إرثٍ كامل من التدخلات والرهانات والأخطاء التي راكمها الغرب منذ اتفاقية سايكس - بيكو وحتى الحروب التي أعقبت "الربيع العربي".
مراجعة ظهرت بوضوح في الوثيقة الأساسية التي تصوغ تفكير واشنطن وتحدد كيفية تعاملها مع العالم: استراتيجية الأمن القومي الأميركي لعام 2025.
استراتيجية أعاد الرئيس دونالد ترامب وصقور فريقه صياغتها بنفسٍ أميركي، لا تقدم مجرد مقترحات سياسية أو عسكرية، انما تعكس إعادة نظر جذرية بنظرة واشنطن للمنطقة العربية، وبخاصة لبنان وسوريا، على ما تقول مصادر أميركية - لبنانية.
ولعل اللافت أن المقاربة الجديدة لا تقوم على فكرة "التغيير بالقوة" أو "هندسة الأنظمة"، بل تتجاوز ذلك إلى ما هو أعمق: إعادة قراءة المنطقة ككتلة حضارية وجغرافية واحدة، لا كجزر سياسية تم تفصيلها على مقاس مصالح القوى القديمة، اي فرنسا وبريطانيا.
في هذه القراءة، يبرز سؤال طبيعي: هل نحن أمام لحظة أميركية تعترف أخيرا بفشل نموذج سايكس - بيكو؟ وهل تضع واشنطن، من حيث لا تعلن، اللبنة الأولى لمرحلة جديدة تتعامل فيها مع لبنان وسوريا كمجال حيوي واحد، على ما ألمح موفد ترامب توم براك، الذي للمناسبة لم يصدر اي موقف أميركي، حتى الساعة، يعزله عن هذا الملف؟
في خلفية هذه الاستراتيجية التي ابصرت النور قبل ايام، تؤكد المصادر، تبرز تصريحات مؤثرة لشخصيات قريبة من مراكز القرار الأميركي، منهم براك نفسه، تحدثت بوضوح عن أن سوريا ولبنان "حضارة واحدة" ينبغي التعامل معها ضمن إطار واحد، وأن الفصل بالقوة بينهما خلال مئة عام لم ينتج سوى الضعف والاضطراب، وهو ما كان سبق وذكره وان بصيغة مختلفة.
الاهم أن الخطاب الأميركي الجديد يذهب أبعد: "دمشق اتخذت قرارات بطولية، وترامب لم يتدخل في شؤونها"، وهو موقف يحمل في طياته انقلابا كاملا على سياسة الولايات المتحدة منذ بداية الحرب السورية، وفقا للمصادر، فهل باتت واشنطن ترى في صمود "الدولة السورية" فرصة استراتيجية، لا عائقاً؟ وهل قررت أن زمن إسقاط الأنظمة وفرض النماذج انتهى؟
غير أن التحول الأكبر، تعتقد المصادر، يبقى في ما يمكن وصفه بـ "إعلان نهاية الحقبة الفرنسية - البريطانية" في إدارة الشرق الأوسط. فعندما يخرج براك ليقول ما معناه "كل قرارات الغرب منذ سايكس - بيكو كانت خاطئة"، فهو لا يصف الماضي فقط، بل يمهّد لمسار جديد، حيث يتخطى كلامه مجرد النقد التاريخي، ليلامس استعداد الولايات المتحدة لإعادة تشكيل قواعد اللعبة وفق منطق جديد، يتعامل مع الإقليم بوصفه شبكة مترابطة، لا خريطة مجزأة.
هنا يصبح من الممكن فهم لماذا تعود واشنطن للحديث عن "وحدة المشرق"، وعن ربط لبنان بسوريا، وعن إنهاء مرحلة بناء الدول الهشة التي تفكك ولا تجمع.
لكن ما الذي يدفع واشنطن اليوم إلى تبديل هذه المقاربة؟ وما الذي يجعل لبنان جزءاً أساسياً من هذه المراجعة؟
الجواب، على ما تشير المصادر، يكمن في خمس حقائق أصبحت ثابتة في العقل الاستراتيجي الأميركي:
- أولا، أن محاولات التفريق بين لبنان وسوريا أثبتت فشلها، وأن الاستقرار اللبناني مشروط حكماً بالاستقرار السوري، وكذلك الحدود، والاقتصاد، والأمن، والمجتمع.
- ثانيا، أن الدخول العسكري والسياسي العميق لإسقاط الأنظمة أثبت أنه مكلف وغير مجد، وأن صمود "الدولة السورية" شكل درسا قاسيا لواشنطن وحلفائها.
- ثالثا، أن الفراغات السياسية التي أنتجتها الحروب كانت فرصة ذهبية لخصوم واشنطن، من إيران إلى روسيا وربما الصين.
- رابعا، أن الوقت حان لتقليل حضور واشنطن العسكري في المنطقة، ما يستوجب بناء "توازنات داخلية" تمنح الإقليم قدرة على إدارة نفسه.
- خامسا، أن إعادة ترتيب الموارد، الممرات التجارية، وطرق الطاقة تتطلب رؤية لا تتعامل مع الدول الصغيرة كوحدات منفصلة، بل كمجالات مترابطة.
وسط هذا المشهد، يظهر لبنان، بكل هشاشته وتعقيداته، كحلقة مركزية في التفكير الأميركي الجديد، تكشف المصادر، فالبلد الذي كان ينظر إليه "كحالة محلية" ذات خصوصية داخلية، أصبح اليوم جزءاً من مقاربة إقليمية أوسع. مقاربة تربطه بسوريا، وبالحدود الجنوبية، وبالملف الإيراني، وبالتوازنات بين الشرق والغرب.
لذلك، فإن استراتيجية الأمن القومي 2025 لا تعيد صياغة علاقة واشنطن بلبنان فقط، بل تعيد تعريف دوره في الإقليم ومعنى وجوده السياسي.
هنا تحديداً تتقاطع النقاط الثلاث: الحديث عن وحدة الحضارة بين لبنان وسوريا، الإشادة بقرارات دمشق، والاعتراف بخطأ سياسات الغرب منذ مئة عام.
وعليه، فان المواقف "البراكية" المتتالية، تشكل إشارات إلى مرحلة يعاد فيها رسم علاقة الولايات المتحدة بالمنطقة العربية. مرحلة سيكون لها أثر بالغ في مستقبل لبنان، وربما في مستقبل المنطقة بأسرها.


