الانتخابات المقبلة... إعادة تدوير فشل التغييريين أم ولادة الدولة الدستورية؟

مقال تحليلي يناقش فشل قوى التغيير في لبنان بعد انتفاضة 17 تشرين، ويشرح—وفق رؤية محمود ممداني—أزمة «دولة الامتيازات» وأسباب تعثّر مشروع الدولة المدنية. تحليل عميق لبنية الطائفية، غياب الكيانية الوطنية، وأهمية بناء مشروع وطني دستوري يسبق الانتخابات المقبلة.

نوفمبر 18, 2025 - 08:12
 0
الانتخابات المقبلة... إعادة تدوير فشل التغييريين أم ولادة الدولة الدستورية؟

 كتب د سمير حسن عاكوم في "اللواء":

 مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي الجديد في لبنان يتكرّر المشهد المألوف كأن الزمن اللبناني يأبى أن يتقدّم. تعود اليوم القوى التي رفعت شعار التغيير إلى الساحة الانتخابية بالمسرحيّة نفسها، بالخطاب نفسه وبالأخطاء ذاتها التي أودت بتجربتها الأولى إلى التشرذم والانكفاء وفقدان ثقة الناس! أربع سنوات مرّت ولم ينجح نواب التغيير في التوحّد ضمن كتلة نيابية واحدة ولا في صياغة مشروع وطني إنقاذي جامع ولا في قيادة حالة وطنية شعبيّة شاملة تعبّر عن روح الساحات التي جمعت اللبنانيين في 17 تشرين 2019 خلف حلم الدولة المدنية الدستوريّة العادلة.


لقد تحوّل التغييريون عن قصد أو عن عجز إلى جزر متباعدة تتنافس فيما بينها أكثر مما تتكامل. فبدل أن يشكّلوا بديلاً عن الطبقة السياسية التقليدية، انزلقوا تدريجياً إلى إعادة إنتاج منطقها في المحاصصة الرمزية وزبائنيتها، تقديس الفرد واحتكار الحقيقة! وهنا تحديداً تتجلّى مأساة لبنان المعاصرة التي وصفها المفكّر الأفريقي محمود ممداني في نظريته حول «دولة الامتيازات» أي الدولة التي تُدار بمنطق الولاءات والانقسامات لا بمنطق المواطنة والعدالة.


في تشخيص ممداني لا تنهار المجتمعات لأن سلطاتها فاسدة فحسب بل لأنها تفشل في بناء كيانية جامعة تتجاوز الانتماءات الضيقة. فحين تُختزل الدولة في تمثيل مصالح جماعات أو طوائف تصبح العدالة مجرّد امتياز يُمنح لا حق يُصان. هذا بالضبط ما يعيشه لبنان منذ عقود... نظام طائفي يحوّل المواطن إلى تابع والحقوق إلى «مكرمات» والسياسة إلى سوق للمساومات.


كانت انتفاضة 17 تشرين محاولةً لتجاوز هذا الواقع، لحظة وعي جماعي أرادت أن تؤسّس لـ«جمهورية المواطنين»، غير أن الثورة التي وُلدت من رحم الشارع وعفويّة ردّات فعل مواطن التمس ضياع معالم دولته ماتت في دهاليز الحسابات الفردية. لم تُبْنَ رؤية واضحة ولا برنامج سياسي واقعي ولا تنظيم قادر على تحويل الغضب الشعبي إلى مشروع مؤسسي.


إن غياب هذه الكيانية الوطنية المتكاملة على المستويات الإنسانية، الاجتماعية، القيميّة والاقتصادية جعل كل مبادرة إصلاحية تنكسر أمام جدار الفوضى والأنانية السياسية. فالتغيير لا يتحقّق بالصراخ في الساحات ولا بالشعارات النارية ولا بلقاءات الفنادق بل بامتلاك مشروع وطني دستوري راعٍ يتوافق مع تطلّعات كل اللبنانيين وبخاصة الجيل الجديد الذي يشعر بأن وطنه سُرق منه مرتين مرة على يد الفاسدين ومرة على يد من وعدوه بالتغيير ولم يمتلكوا أدواته. لا تبدأ الثورة في فكر محمود ممداني من الشارع بل من تحليل بنيّة المشكلة. لا يمكن أن تغيّر ما لم تفهم كيف يتجدّد الفشل داخل المجتمع نفسه.


ركّزت النخب التغييرية في لبنان على مواجهة «النظام السياسي» دون أن تطرح بديلاً متماسكاً متميّزاً عنه. لم تُجرِ مراجعة عميقة لآليات إعادة إنتاج الزعامة والطائفية داخل الحياة اليومية، داخل التعليم والإعلام والاقتصاد والوعي الجمعي. ولذلك سقطت الثورة في فخّ من لم يستوعب معنى شعارات «كلّن يعني كلّن» ومن دون أن تحدّد من سيأتي بعد «كلّن» وبأي كيانيّة، رؤية وهدف.


الثورة الحقيقية كما يراها ممداني ليست «ضدّ أشخاص» بل ضدّ منطق الامتياز الذي يجعل الدولة ملكاً لفئة. هي مشروع لإعادة تأسيس العلاقة بين المواطن والدولة على قاعدة المواطنة المتساوية في بلد المؤسسات الراعيّة وفق معايير علميّة لا على قاعدة الطائفة أو الجهة أو الولاء. ومن هنا فإن أي مشروعا تغييريا لبنانيا جادّا يجب أن يبدأ بثلاث خطوات واضحة:


• تحليل جذري لبنية المشكلة اللبنانية أي فهم العلاقة بين الطائفية والاقتصاد الريعي واحتكاراته وثقافة الزعامة.


تحديد أهداف التغيير الواقعية بعيداً عن العناوين العاطفية الفضفاضة.
• بناء بنيّة تنظيمية جامعة تمثل الناس لا الزعامات وتحمل حقيقة مشروع دولة المؤسسات الدستورية المتكاملة الراعية بعدالة وإنصاف.


من غير ذلك ستتحوّل الانتخابات المقبلة إلى مجرّد طقس لتدوير الفشل ورفع مستواه، وستبقى كل كتلة تغييرية أن لم نقل «أفراد عناوين التغيير» مشروعا ناقصا يبحث عن هويته في مرآة ومفاهيم الآخرين.


يرى ممداني أن المجتمعات الخارجة من الاستعمار كثيرا ما تقع في فخّ «الهوية السياسية» التي تهيمن على مفهوم «المواطنة». أي أن الناس يُعرّفون أنفسهم بما هم عليه من انتماءات لا بما يتشاركونه من مصير. يتجلّى هذا الفخّ في لبنان بأوضح صوره، فحتى التغييريين لم يستطيعوا التحرّر من لغة الهوية وتراكمات الأفكار المعتادة. الكل اعتراضي، البعض يتحدّث باسم «المدنية» وربطها بالتفلّت آخرون باسم «السيادة» من دون شرح ماهيتها على المستوى البنائي والقسم الثالث باسم «العدالة الاجتماعية» والتحرر من القيّم! لكن أحداً لم ينجح في جمع الصحيح من هذه المفاهيم ضمن رؤية وطنية موحّدة.


وهكذا ما زال اللبناني يعيش في فضاء رمادي... لا هو في دولة الامتيازات القديمة ولا في دولة الدستور المنشودة. وبين الاثنين تضيع معالم الدولة ويتآكل المجتمع أكثر فأكثر، فيما تنحسر ثقة الجيل الجديد بكل ما يسمّى «سياسة».


من هنا، لا يمكن التعامل مع الانتخابات المقبلة كغاية بحدّ ذاتها. فالانتخاب في مجتمع مأزوم مثل لبنان ليس سوى أداة لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة. لكنه سيفقد معناه إذا بقي خاضعاً لمنطق الزعامات بمستوياتها المتعددة أو إذا تحوّل إلى تنافس بين من يدّعون التغيير على مقاعد محدودة.


لا يحتاج لبنان إلى وجوه جديدة أو التجديد لفشلة من تسللوا باسم 17 تشرين في الانتخابات الماضيّة الى داخل النظام، بل إلى نظام جديد وخطاب جديد يخلق وجوهاً مختلفة. يحتاج إلى مشروع وطني جامع يستند إلى فكرة الكيانية المواطنيّة الدستورية التي ترعى العدالة وتؤمّن المساواة وتستعيد مفاهيم الدولة الحقيقيّة ومؤسساتها من براثن الامتيازات التاريخية والمحاصصة التي مزّقتها. فمن دون هذه الكيانية ستبقى كل انتخابات مجرّد إعادة إنتاج للانقسام باسم التغيير، وكل «ثورة» مجرّد هروب إلى الأمام أن لم نقل أداة من أدوات «نوافذ فرج» توظّفها مشاريع سلطة المحاصصة الشيطانيّة وعلى كل المستويات كما خبرناها.


لم يبحث الجيل الذي نزل إلى الشوارع في 17 تشرين عن زعيم بل عن وطن ودولة ترعى مصالحه ومستقبله. وعدم إدراك نواب التغيير هذا المعنى أفقدهم شرعيتهم الأخلاقية قبل السياسية. فالشعب اللبناني لا يريد خطابات جديدة بوجوه جديدة أو متجددة، بل حياة كريمة داخل دولة عادلة.


لقد آن الأوان للانتقال من منطق الثورة العاطفية إلى منطق الهندسة الوطنية التي تُعيد صياغة العقد الاجتماعي على أسس المواطنة. فإما تكون الانتخابات المقبلة محطة تأسيس للدولة الدستورية الراعية أو تكون آخر فصل من فصول «جمهورية الامتيازات والمحاصصات الميليشياوية» المتساقطة التي استنفدت كل مبرّرات بقائها.