"مقتل زوجين في صوفر يهز لبنان»! "الخطيفة" بين التقاليد والمأساة... "قضيّة شرف" مُبرّر لجريمة
كتبت ندى عبد الرزاق في "الديار":
في قلب المجتمع اللبناني، وتحت طبقاتٍ متداخلة من الأعراف والسلطات العائلية والدينية والاجتماعية، نشأت ظاهرة "الخطيفة"، كأحد أكثر أشكال الارتباط إثارةً للجدل، وكمؤشّر واضح على الصراع بين مجتمعين: مجتمع يحاول التمسّك بنسخته الأكثر صرامة من التقاليد، وآخر يسعى إلى فتح الباب أمام حرية الاختيار، وحق الفرد في تقرير مصيره العاطفي.
تكرار جرائم القتل غير مبرر!
تاريخياً، لم تكن "الخطيفة" مجرّد قصة هروب بين عاشقين، بل وُلدت من رحم بيئاتٍ تخضع للهياكل العشائرية والتراتبية القبلية، حيث الزواج لا يُعد شأًنا شخصيا، بل قرار جماعي تتحكم به العائلة، الطائفة، المنطقة، أو حتى الوضع الاجتماعي والاقتصادي.
ومع الزمن، ومع كل تحول اجتماعي أو سياسي، بقيت "الخطيفة" تظهر كمتنفّس اضطراري لكل علاقة، يصطدم فيها الحب بجدار المنع. وبالتالي، تعتبر شكل زواج يلجأ إليه ثنائي ضد رفض المحيط، سواء بموافقة الفتاة أو تحت ضغط الظروف. وتنتشر هذه الظاهرة في مجتمعات تهيمن عليها سلطة العائلة وثنائية الشرف، حيث يُقاس الفرد بامتثاله لا باختياره.
...الاستقواء يتفاقم!
لكنّ المشكلة، كما تكشف الوقائع، ليست في "الخطيفة" نفسها. فهذه الظاهرة مهما كانت مثيرة للجدل، ليست إلا انعكاسا لواقع اجتماعي يضيّق الخناق على حقّ الفرد في الحب والزواج.
من هنا، يبدأ الخطر الحقيقي بعد الخطيفة، حين يشعر بعض الأطراف بأنّ شرفهم جُرح، أو سلطتهم تحدّاها قرارٌ شخصي، فتتحوّل المسألة من اختلافٍ حول زواج، إلى مسرح دم تُنهيه رصاصة ثأر.
بعد الجريمة المروّعة...
الأجهزة المعنية لا حس ولا خبر!
ومن هذا المنطلق، عقب حادثة صوفر، تسلط "الديار" الضوء على "الخطيفة" ، بهدف منع فقدان المزيد من الأرواح، بسبب أمور يمكن حلّها بطريقة طبيعية او سلمية. فالزوجان اللذان اختارا الزواج، كانا ناضجين واختارا بعضهما بحرية. وبالتالي، حتى لو لم يجمعهما الحب، فقد يجمعهما التفاهم، وإذا غاب التفاهم، فإن الالتزام المشترك يكون كافيا لاتخاذ خطوة الزواج.
ورغم تأكيد المصادر الميدانية وقوع الجريمة، صمت الأجهزة الأمنية يفاقم الأزمة. علما بأن "الديار" تواصلت مع مصادر أمنية مطلعة، لكنها لم تتلق أي إجابة تؤكد أو تنفي الحادثة.
ضحيتان بسبب التخلّف والرجعية!
اما في تفاصيل مأساة صوفر، تلك البلدة الجبلية الهادئة التي اعتادت أن تصحو على ضباب الصباح ورائحة الصنوبر، فقد تبدّد كل شيء فجأة. حلّ الرعب مكان السكينة، حين شقّت أصوات الرصاص جدار الصمت، معلنةً فاجعة هزّت لبنان بأسره.
ففي مشهد يكاد لا يصدّقه عقل، اقتحم ملثمون مقر ر. م الذي يعمل في تصليح السيارات، لينهالوا عليه وعلى زوجته الحامل من عائلة "أبو سمرا" بوابل من النار، قبل أن يفرّ الجناة تاركين خلفهم جثةً مزدوجة وطفلة، هي ابنة الزوج، مضرّجة بالدماء.
ووفق مصادر "الديار" تتجه أصابع الاتهام نحو عائلة الزوجة نفسها، التي رفضت هذا الزواج منذ لحظته الأولى. اذ لم يُكتب لقصة الحبّ هذه أن تمرّ تحت سقف العادات الصارمة، دفعت ابنتهم مرارا إلى الاصطدام بجدران التقاليد، فهربت مع من أحبّت، وتزوّجته بما يعرف اجتماعيا بـ "الخطيفة".
من جهة ثانية، تحدثت مصادر محلية عن أن عدداً من أقارب العائلة، حضروا إلى محل الإطارات حيث يعمل الزوج، واقتحموا الغرفة الخلفية، مطلقين الرصاص بلا تردّد، وكأنهم ينفّذون حكماً مؤجلاً باسم "الثأر". دقائق قليلة كانت كفيلة بإسكات حياة كاملة.
وقد صُعقت البلدة التي استفاقت على الدم من هول المشهد، الزوجان فارقا الحياة على الفور، بينما نُقلت الطفلة وهي مصابة في قدميها إلى المستشفى. الشهود وصفوا الجريمة بأنها "إعدامٌ عائلي"، محمّلين العادات البالية مسؤولية تحويل النزاعات الأسرية إلى ساحات قتل مفتوح.
البيانات مرعبة!
من جانب آخر، تكشف آخر أرقام "الدولية للمعلومات" ان جرائم القتل ارتفعت في 2025 بنسبة قاربت 33.3% مقارنة بالسنة الماضية، حيث سُجّل حتى نهاية آب الفائت نحو 140 جريمة، في حين كانت 105 العام المنصرم.
حق المرأة مساوٍ للرجل
من جهتها، تقول الاختصاصية الاجتماعية الدكتورة غنوة يونس لـ "الديار": "بصراحة، إنّ ظاهرة الخطيفة في لبنان ليست مجرّد قصة حب أو قرارا فرديا، بل هي مرآة لمجتمع لا يزال معلّقًا بين منظومتين: منظومة تقليدية ذات طابع عشائري، وأخرى تسعى إلى أن تكون حديثة، وتمنح الفرد حقّه في اتخاذ قراراته العاطفية والشخصية".
وتضيف: "من منظور اجتماعي، إنّ الخطيفة تحدث عادة عندما يشعر الشاب والفتاة بأنّ طريقهما نحو الارتباط بات مسدودا، إمّا بسبب رفض الأهل، أو نتيجة الفوارق الطبقية، أو بفعل الهيمنة الذكورية التي لا تنفك تفرض أنّ العائلة هي من يقرّر مصير الفتاة. بمعنى آخر، الخطيفة لا تنشأ من فراغ، بل من غياب مساحات الحوار داخل الأسرة، ومن ثقافة تقوم على السيطرة بدل ثقافة التفاهم".
وتوضح: "الأخطر أنّ هذه الظاهرة قد تجرّ في بعض الأحيان أشكالًا من العنف، إذ لا تزال بعض العائلات تنظر إلى الفتاة وكأنّها ملكا أو عرضا، لا كفرد يمتلك إرادة وقدرة على اختيار مسار حياته. وهنا يظهر تدخل السلاح والثأر، ومحاولات ما يُسمّى "تنقية الفضيحة"، إضافة إلى العنف الجماعي. والنتيجة؟ تماما كما حدث في الجريمة التي وقعت في صوفر قبل نحو اسابيع، حيث قتلت الفتاة وهي حامل، وقتلوا زوجها أيضا في مشهد يعكس إنسانية منتهكة، وحياة مهدورة، وأمنا اجتماعيا يتعرّض لاهتزاز خطر".
وتستكمل: "من وجهة نظري، إنّ المشكلة الأساسية لا تكمن في الخطيفة بحدّ ذاتها، بل في منظومة الشرف التي لا تزال تعتبر الفتاة مسؤوليّةً تفوق حياتها، وتضع لها ثمنًا. وفي بيئة كهذه، يتحوّل أي قرار تتخذه الفتاة خارج حدود "المسموح"، إلى قضية شرف تستجلب العنف".
وتتابع يونس مؤكدةً أنّ "تأثير هذه الظاهرة في المجتمع جسيم، ويتجلّى في ثلاثة مستويات رئيسية:
1- على صعيد الأسرة: يظهر الخلل في انعدام الثقة، وانقطاع قنوات التواصل، وغياب التربية التي تحترم استقلالية الأبناء والبنات وقدرتهم على اتخاذ قراراتهم.
2- على مستوى المجتمع: تُكرَّس عقلية الثأر، ويُعزَّز العنف، ويُحوَّل أي خلاف عائلي إلى مواجهة قد يدفع أفراد الأسرة حياتهم ثمنا لها.
3- بالنسبة الى الدولة: يتكشف ضعف القانون أمام سطوة العادات، مع غياب الحماية الفعلية للفتاة، حتى عندما يكون قرارها واعيا وناضجا ومسؤولا.


