برلين على الخط اللبناني – "الاسرائيلي"... وساطة أم جس نبض؟
كتب ميشال نصر في "الديار":
في خضمّ الزلازل السياسية التي تعصف بالمنطقة، من غزة المنكوبة إلى جنوب لبنان المتوتر، ومن واشنطن المترقبة إلى طهران التي تقرأ التوقيت جيداً، برز تطور ديبلوماسي مفاجئ: ألمانيا تدخل على خط المفاوضات بين لبنان و "إسرائيل". خطوة لم تكن في الحسبان، جاءت من دولة عرفت "ببرودها السياسي" في ملفات الشرق الأوسط، فإذا بها تطل فجأة كلاعب يسعى إلى الإمساك بخيوط لعبة شديدة التعقيد.
فزيارة وزير الخارجية الألماني إلى لبنان قبل ايام، تزامنا مع زيارة رئيس المخابرات العامة المصرية اللواء حسن رشاد، ولقاءاته المكثّفة مع كبار المسؤولين اللبنانيين، بدت للوهلة الأولى عادية وضمن حراك أوروبي تقليدي. لكن المفاجأة الكبرى، وفقا لمصادر ديبلوماسية متابعة، كانت توجه الوزير مباشرة من بيروت إلى "تل أبيب" في زيارة غير مدرجة على جدول أعماله الرسمي، ما فتح الباب امام التساؤلات والتكهنات: هل تحركت برلين بوساطة خفية؟ وهل نحن أمام محاولة جديدة لإحياء قنوات التواصل المجمدة بين بيروت و "تل أبيب"؟
توقيت التحرك الألماني لا يقل أهمية عن مضمونه. فالمشهد اللبناني - "الاسرائيلي" يعيش حالة من الاختناق السياسي والأمني، وسط غياب شبه كامل للمبادرات القادرة على ضبط ايقاعه، حيث تشير المصادر الى أن برلين لا تتحرك بمعزل عن واشنطن وبروكسل، بل ضمن تنسيق غربي متقدم، لإعادة الإمساك بخيوط المنطقة بعد اهتزاز أدوات الضغط التقليدية. فبينما تراجعت المبادرة الفرنسية، تحت وطأة فقدان الثقة من الأطراف اللبنانية وتبدل المزاج الإقليمي، بدت ألمانيا وكأنها تملأ فراغا متعمدا، ساعية إلى اختبار فرص تأدية دور "الوسيط الهادئ"، وهو الدور الذي تتقنه جيداً في ملفات النزاع المعقدة، من إيران إلى أوكرانيا.
لكن ما الذي تريده برلين فعلا من هذا الانخراط؟ وفقا للمعلومات الديبلوماسية، فإن الهدف المباشر هو ملف الأسرى والمفقودين بين "إسرائيل" وحزب الله، وهو ملف تاريخي كانت ألمانيا طرفا فاعلا فيه، خلال مفاوضات التبادل السابقة في العقدين الماضيين، غير أن القراءة الأوسع تشير إلى أن التحرك يتجاوز هذا البعد الإنساني، ليبلغ محاولة فتح قنوات تفاوض جديدة بين بيروت و "تل أبيب"، ولو تحت عناوين أمنية أو إنسانية في البداية، تمهيداً لمسار سياسي أكثر شمولا، يتقاطع مع المخططات الاميركية.
وتشكف المصادر في هذا الاطار، ان برلين أدّت دورا محوريا وهاما خلال فترة حرب الاسناد، وتحديدا مع اندلاع الحرب على الجبهة اللبنانية، حيث زار مدير استخباراتها بيروت اكثر من مرة في زيارات سرية، التقى خلالها كبار المسؤولين في حزب الله، كما ان برلين اضطلعت بدور اساسي في الكواليس، ساهم في انجاز وقف النار وقبول لبنان به.
وتتابع المصادر، بان الدافع الاستراتيجي خلف المبادرة الألمانية، يرتبط أيضا بقلق أوروبي متزايد من تحول الشرق الأوسط إلى بؤرة اشتعال جديدة، تهدد المصالح الأوروبية المباشرة، سواء في الطاقة أو في الأمن. فبرلين، التي لطالما اكتفت بتادية أدوار اقتصادية داخل الاتحاد الأوروبي، تسعى اليوم إلى تثبيت حضور سياسي مستقل عن باريس، في ظل شعور متنام بأن الديبلوماسية الفرنسية فقدت بريقها في المنطقة.
وفي هذا السياق، تبدو ألمانيا وكأنها تختبر قدراتها في تأدية دور الوسيط النظيف"، الذي لا يحمل تاريخا استعماريا في المنطقة، ولا ينظر إليه كطرف منحاز. فبرلين تتمتع بعلاقات متوازنة مع "إسرائيل" من جهة، وبقنوات مفتوحة مع الحكومة اللبنانية وحزب الله، والأمم المتحدة من جهة أخرى، فضلا عن وجود قواتها في إطار اليونيفيل جنوبا، ما يمنحها شرعية ميدانية للتحرك.
وتتابع المصادر بأن الدخول الالماني على الخطّ لا يخلو من المخاطر، فالمشهد اللبناني – "الإسرائيلي" ليس مجرد خلاف حدودي، بل هو عقدة جيوسياسية تتقاطع فيها الحسابات الدولية والاقليمية والمحلية، وأي وساطة جديدة تحتاج إلى تفاهم ضمني مع واشنطن من جهة، وضوء أصفر على الأقل من طهران من جهة أخرى، وهو ما يجعل هامش المناورة الألماني ضيقا جدا، فضلا عن ادراك برلين انها تتدخل في ساحة مشحونة بالحساسية، حيث أي مبادرة غير متوازنة قد تفسر في بيروت على أنها اصطفاف إلى جانب "إسرائيل"، على أنها محاولة لتدويل الصراع. لذلك، يبدو أن برلين تتحرك بخيوط دقيقة، مفضلة اختبار ردود الفعل قبل الإعلان عن أي إطار رسمي لمبادرتها.
في المحصلة، لا يمكن اعتبار الخطوة الألمانية تفصيلا عابرا، فهي تعكس تحولا تدريجياً في مقاربة الغرب للملف اللبناني – "الإسرائيلي"، من إدارة أميركية مباشرة، إلى توزيع الأدوار بين العواصم الأوروبية. وبرلين، التي طالما فضلت البقاء في الظل، تبدو اليوم تبحث عن مقعد متقدم على طاولة الشرق الأوسط، سواء كمسهل تفاوضي أو كضامن أمني على المدى البعيد.
لكن تبقى الأسئلة مفتوحة: هل تملك ألمانيا فعلاً أوراق الضغط الكافية لتتحوّل إلى وسيط فعلي أم أن زيارتها كانت مجرّد جسّ نبض سياسي في انتظار اتضاح مسار التسويات الإقليمية الكبرى؟ الجواب، كما يبدو، سيكتب في ضوء التطورات في الجنوب اللبناني، حيث لا تزال كل المبادرات، مهما كبرت عناوينها، رهينة صاروخ قد يطلق، أو تفاهم قد يبرم في لحظة مفصلية.


