مرفأ بيروت... أعظم جروح المدينة!
كتبت ريما النخل في "الاخبار":
يروي معرض «مرفأ بيروت» في «بيت بيروت» حكاية مدينة نشأت مع مرفئها وانهارت بانفجاره، عبر أرشيفٍ بصريّ وخرائط ووثائق تاريخية تكشف علاقة المرفأ بالهوية الحضرية لبيروت. عبر إشراف هالة يونس، يتحوّل المكان إلى مساحة للتأمل في الذاكرة، والترميم، والمشاركة في تخيّل المستقبل
تاريخ ممتدّ من القرن التاسع عشر إلى اليوم يسرده معرض «مرفأ بيروت» داخل مساحات «بيت بيروت» المكان الأكثر ملاءمةً لتيمة المعرض الذي يبدو للوهلة الأولى موجّهاً إلى المتخصّصين والناشطين في مجالات العمارة والتنظيم المدني والتنمية الإقليمية.
موجّه لكل المهتمين ببلدهم
تتضح الصورة أكثر بعد التجوّل في أقسامه والاستماع إلى القيّمة الفنية الباحثة والمعمارية هالة يونس، حول غايات المعرض التي تختصر بكلمات ثلاث هي الحفاظ والترميم والمشاركة. نتأكّد بأنّ المعرض يمكن أن يهمّ سائر المهتمّين بواقع مدينتهم وبلدهم، وتتبدّى بالتالي الفوائد المعرفية التي يوفّرها لزوّاره.
قُسّم المعرض إلى 14 عنواناً: «تاريخ المرفأ»، و«الخط الزمني»، و«طاولة المستندات التاريخية»، و«خريطة تفاعلية»، و«ثلاث رؤى للمدينة»، و«استعادة علاقة بيروت بمرفئها»، و«توصيات نقابة المهندسين»، و«وجهات نظر في المرفأ»، و«البيت الأزرق -المسح المتأني»، و«تكسّرت بيروت المرايا»، و«شهادات»، و«أين كنتم في 4 آب، و«معركة الأهراءات»، و«الشاهد الصامت».
عناوين تحيط بالمرفأ كإنشاء وقضية وطنية وعلاقة تفاعلية وتشابكية مع المدينة، وتكاد تكون إحاطةً شاملة ينقصها ربما جانب تشكيليّ، كإضافة لوحات لفنانين تخفّف قليلاً من الطابع المعماري والتأريخي الطاغي وتبثّ فيه روحاً فنية تكسر جفافه الهندسيّ والتوثيقيّ.
صانع هوية المدينة
الشرح الذي وضعته هالة يونس من «مرصد العمارة والمدينة» في «بيت بيروت» مهمّ وجدير بالإضاءة على محتواه. تقول إنّ المعرض «يتناول العلاقة المتشابكة بين بيروت ومرفئها: بعدما نشأت بيروت الحديثة مع تأسيس المرفأ وانتعشت مع ازدهاره، دُمّرت مع تدميره، حتى بات جرحها الأكبر».
مأساة تفجير المرفأ جرح أكبر، بل أعظم وأفدح جروح المدينة، وحوله في المعرض شهادات مصوّرة ضمن شريط فيديو أنجزه الفوتوغراف جيلبير الحاج.
أما الجانب التاريخيّ، فتوجزه يونس بالقول: «منذ القرن التاسع عشر، تزامن نموُ المدينة مع نموّ المرفأ وتقاسما مجالاتها الجغرافية الضيقة. دائماً ما حاصرت المدينة المرفأ، كما عرقل هو بدوره تنظيمها مراراً. من هذا المنظور، يكتسب مشروع إعادة تأهيل المرفأ أبعاداً تتخطى إشكالية تصميم ميناء معاصر، لا بل يعدّ تأهيل المرفأ فرصة فريدة وتاريخية لإعادة صوغ علاقة الميناء بالمدينة واستعادة دورهما المتكامل الذي صنع هوية بيروت، المدينة المتوسطية المفتوحة على البحر».
في ظلّ التحوّلات الجيوسياسية المتسارعة في المنطقة أيّ دور مستقبليّ لبيروت ومرفئها؟ توضح يونس: «يستعرض «مرصد العمارة والمدينة» في «بيت بيروت» ثلاث رؤى للمرفأ تعكس ثلاث رؤى للمدينة: من إعادة تشكيل سلسة وإعادة تموضع، إلى سيناريوات طموحة لمدينة في توسع دائم، وصولاً إلى خطة طوارئ تحافظ على الاستمرارية وتعيد المرفأ إلى نمط العمل المعتاد، وهي الرؤية التي تفضّلها السلطات المحلية.
أربعة أسئلة أساسية تبقى مطروحة: أي نوع من الحوكمة؟ ما هو مصدر التمويل؟ ما علاقة المرفأ بالمدينة والحيّز العام؟ وماذا عن جراحنا وذاكرتنا؟».
بين التمسّك بالذاكرة والتوق إلى النسيان
تلفت القيّمة الفنية إلى أنّ المجتمع المدني بقي في الطليعة، كما هي الحال دائماً في بيروت، وقد صاغت نقابة المهندسين «إعلان بيروت العمراني» عام 2021 وتوصيات لإعادة إعمار المرفأ في عام 2023. كما طرحت الأوساط الأكاديمية عدداً من المشاريع والتصوّرات.
ولكن ما واقع الحال اليوم؟ بعد مرور خمس سنوات على الانفجار، ورغم الجهود والمبادرات القيّمة التي يوثّقها المعرض، لا تزال أجزاء كبيرة من المرفأ أرضاً مقفرة، مهجورة ومهملة. فالعصف الذي دمّر المدينة وأطاح منشآت المرفأ، كشف أيضاً عن هشاشة حوكمته واعتمادها المميت على النظام السياسي الذي ما يزال يشلّ لبنان، بحسب تعبير يونس التي تضيف: «يعتبر بعضهم أنّ انفجار المرفأ نتيجة محتومة لاهتراء بلد لم يعد في الإمكان إصلاحه (…) لا تزال صدمة الانفجار والهزّات الارتدادية المتتالية تقصي مخيلتنا الجماعية عن المشاركة في تصوّر مستقبل لبيروت، فالهول تركنا في حالة من الشلل، معلّقين في اللحظة، في تكرار المشهد والشجن العميق، غير قادرين على العبور إلى المستقبل. ولعلّ معركة الأهراءات تجسّد هذا الصراع الداخلي بين ذواتنا التي تتمسك بالذاكرة، وتلك التي تتوق إلى النسيان».
تاريخ المرفأ منذ 1830
تطالعنا أولاً في المعرض جدارية بيانيّة حول تاريخ مرفأ بيروت بين عامي 1830 و 2020، مقسّمة بالعقود والسنوات، مع نصوص مكبّرة العناوين والحروف بالعربية والإنكليزية تشرح التفاصيل التاريخية لتطوّر المرفأ منذ نشأته، وفوتوغرافيات قديمة جميلة للمرفأ.
هناك جدارية تجهيزية ثانية في مساحة أخرى من «بيت بيروت»، تتضمن المشاريع التي وضعت لتطوير مرفأ بيروت وإعادة بنائه وتوسعته، من قبل «البنك الدولي»، ومن قبل شركات ألمانية عام 2021 ، ومن قبل شركات فرنسية لحساب وزارة الأشغال عام 2024.
ويمكن أن نصف هذه المشاريع المبسوطة أمامنا على الجدار العريض بأنّها تبقى «مشاريع على ورق» لم يتحقق منها شيء حتى الساعة.
وتعيد هالة يونس التأكيد على أنّ إعادة إعمار مرفأ بيروت (وسط المشاريع المطروحة والمختلفة) ليست موضوعاً لوجستياً وتقنياً بل موضوع تنظيم وتخطيط مدني. ولأن المرفأ متشابك مع المدينة، لا يمكن معالجته كجزيرة منعزلة عنها، فالمشكلات التشغيلية الخاصة بالمرفأ تخصّ مشكلات المدينة التشغيلية أيضاً. نمت بيروت مع مرفئها، بل ولدت معه في القرن التاسع عشر. هوية بيروت مرتبطة بمرفئها، وكذلك مصيرها. لحظة تدمير المرفأ كانت لحظة وجودية له وللمدينة معاً.
الترميم: «البيت الأزرق» نموذجاً
وعلى أرضية مساحة أخرى من المعرض، مجسّم كبير يمتدّ من بيروت إلى البقاع (استخدم في معارض سابقة) يضيء بالألوان على الحقب التاريخية بتجهيز إلكترونيّ تفاعليّ حديث يقسّم المناطق والطرقات وفقاً لخرائط ولخطوط مضيئة متحركة.
ويخصّص المعرض حيّزاً لموضوع الترميم، في مساحة خاصة، عبر نموذج «البيت الأزرق» في منطقة المدوّر المطلّة على محطة شارل الحلو. تظهر رسوم هندسية جميلة لهذا البيت تعبّر عمّا سمّته المعمارية يونس «المسح المتأنيّ»، فالترميم لا يحصل بإزالة مبنى وإقامة آخر شبيه له مكانه، بل بالنظر الدقيق إلى كل «جرح» في المبنى وكل تفسّخ، بحيث يتمّ العمل بتقنيات عالية جداً يمكن وصفها بـ «المسح الإشعاعي» لكل حجر ساقط أو قطعة خشب ساقطة.
في ركن آخر من المعرض، يبثّ على الجدار شريط فيديو يقدّم «مسحاً» هندسياً للمدينة، نموذجاً رقمياً لبيروت كما يؤمل أن تكون مستقبلاً، أنجزته مديرية الآثار بتمويل من الأونيسكو.
شريط ــ وثيقة يُعرض للمرة الأولى هنا، تكمن أهميته في أنّه يرينا كيف كانت المباني القديمة الجميلة قبل الانفجار بغية إعادة ترميمها كما كانت. يرافق الصور نصّ صوتيّ للأديب الراحل الياس خوري يحكي عن موت المدينة.
ومن أرشيف التلفزيون الفرنسي مشاهد قديمة لمرفأ بيروت تمرّ على شاشتين صغيرتين في ركن من المعرض، وفي ركن آخر شريط الشهادات التي صوّرها وجمعها جيلبير الحاج لمجموعة من أصدقائه الفنانين والمهندسين والمثقفين ليحكوا أمام الكاميرا عمّا يعنيه الانفجار لكلّ منهم. بيروت التي ولدت مع ولادة المرفأ، ماتت مع موته، تقول هالة يونس، على أمل أن تحيا من جديد وتصوغ لنفسها هويةً جديدةً.


