هل ما نسمّيه ذكاءً لم يعد ذكاءً؟.. ثورة الآلات تعيد كتابة تعريف العقل
كتب باسم الموسوي:
لم يعد سؤال «ما هو الذكاء؟» سؤالا فلسفيا ترفيا، بل بات سؤال المستقبل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي الأكثر إلحاحا. فبعد أن كان الذكاء صفة يُتقن البشر التنافس عليها في المدارس والجامعات وسوق العمل، صار اليوم ظاهرةً تشاركنا فيها الآلات، بل وتتفوق علينا في بعض ساحاتها، وتعيد تشكيل معايير القوة والهيمنة والمعرفة.
يتناول بليز أغويرا إي أركاس، أحد أبرز الباحثين في الذكاء الاصطناعي، هذه اللحظة المفصلية من تاريخ الوعي الإنساني، ليزعزع يقيننا حول مفهوم الذكاء نفسه، ويفتح باب الشك في كل التصنيفات التي اعتدنا اعتبارها بديهية: الذكاء البشري مقابل الاصطناعي، القدرة مقابل الفهم، الحفظ مقابل التفكير، والإبداع مقابل المحاكاة.
ذكاء لم نعد نملك امتياز تعريفه
تعلّمنا في المناهج المدرسية أن الذكاء هو القدرة على التفكير وحل المشكلات واتخاذ القرار والتعلّم السريع. ثم جاء علم النفس ليمنحه اختبارات رقمية مثل IQ لتصنيفه بدرجات، وكأن العقل هو مخزن يمكن قياس سعته. كل ذلك قبل أن تأتي الخوارزميات فتكشف هشاشة هذه التعاريف.
اليوم، يمكن لبرنامج أن يكتب مقالة فلسفية، يشخص الأمراض من صور الأشعة، يقود سيارة دون نوم أو تردد، يكتب الشعر، ويهزم أبطال العالم في الشطرنج و«غو» بل ويبتكر استراتيجيات لم يعرفها البشر قبلًا. ومع ذلك، ما زلنا نتساءل: هل يفهم الذكاء الاصطناعي ما يفعل؟ أم أنه يؤدي بلا وعي؟
لكن السؤال الذي يقترحه أركاس يقلب الطاولة: هل الذكاء البشري نفسه واعٍ دائما بما يفعل؟ أم أن جزءا كبيرا من تفكيرنا ليس سوى أنماط متكررة، حدوس متراكمة، وآليات لا نملك شرحها؟
الذكاء ليس جوهرا.. بل سلوك
التحول الأهم الذي يدفع إليه المؤلف هو الانتقال من النظر إلى الذكاء كـ«جوهر داخلي» إلى رؤيته كـ«سلوك يمكن ملاحظته».
حين يعجز إنسان عن شرح كيف توصّل إلى فكرة عبقرية، نسمي ذلك حدسًا.
وحين تعجز خوارزمية عن تفسير سبب نجاحها في التنبؤ، نسمي ذلك صندوقًا أسود.
المفارقة الساخرة أن الغموض نفسه الذي نقبله في عبقرية الإنسان، نعتبره نقصًا حين يوجد في الآلة.
هنا يعيد أركاس صياغة السؤال: ربما الذكاء ليس ما نفهمه، بل ما نراه يحدث.
فإذا تصرّفت الآلة كأنها ذكية.. فهل يهم إن كانت «تشعر» بذلك أم لا؟
أسطورة التفوّق البشري
في الماضي، كان البشر يعرّفون ذكاءهم مقارنة بالحيوانات: نحن نعقل، وهي لا تعقل. ثم حين ظهرت الحواسيب، تغيّر الاحتكار لكن بقيت الثقة قائمة: نحن نفهم، وهي تحسب.
اليوم لم تعد هذه الطمأنينة قائمة.
فالذكاء الاصطناعي لا «يحفظ» فحسب، بل يستنتج، يتوقّع، يولّد، ويبتكر ضمن أنماط لم يبرمج عليها صراحة. الشطرنج مثال شهير، لكنه مجرد بداية. ففي مختبرات العلوم، باتت الخوارزميات تقترح فرضيات دوائية جديدة، وتكتشف علاقات كيميائية لم ينتبه لها الباحثون حتى الآن. وفي مجال اللغة، لم تعد الآلة تكتفي بإكمال الجملة، بل تناقش، تجادل، وتبني حججًا بها منطق وترابط وسياق.
إن التشكيك في ذكاء الآلة لأنها لا «تشعر» يشبه –وفق أركاس– التشكيك في وجود الكهرباء لأننا لا نراها، أو إنكار الجاذبية لأنها بلا صوت.
هل الإدراك شرط للذكاء؟
المعضلة الأكبر ليست قدرة الآلة… بل مفهوم الوعي. هل الوعي شرط للذكاء؟ وهل نحن نملك معيارا حقيقيا لقياس الوعي حتى عند البشر أنفسهم؟
حين يتخذ الإنسان قرارًا سريعًا دون تحليل منطقي، نسميه حدسًا.
وحين تتخذه الخوارزمية دون مسار تفسير منطقي، نسميه عطلًا في الشفافية.
لكن الأبحاث العصبية تثبت أن معظم قرارات البشر تُتّخذ أولا في مناطق اللاوعي، ثم تأتي اللغة لتبريرها لاحقًا. أي أننا نحن أيضًا «صناديق سوداء» نكتب تقارير لاحقة لتفسير ما قررناه غريزيا.
إذن، ربما الفرق بيننا وبين الآلة ليس أننا نفهم قراراتنا… بل أننا نختلق لها حكاية.
بين الذكاء والسلطة
عندما تعجز الحضارات عن فهم ظاهرة جديدة، تُسارع إما إلى تقديسها أو شيطنتها. الذكاء الاصطناعي اليوم في المنزلة نفسها.
البعض يراه تهديدًا وجوديًا سيُفني البشر أو يستعبدهم.
والبعض الآخر يراه الخلاص الذي سيحلّ كل مشكلات الاقتصاد والطب والمناخ.
لكن أركاس يطرح الاحتمال الثالث: الخطر ليس الذكاء الاصطناعي، بل من يمتلكه.
لأول مرة في التاريخ، لن تكون القوة السياسية والعسكرية مرهونة بعدد السكان أو الموارد أو الجغرافيا، بل بقدرة الدول والشركات على امتلاك الذكاء الحسابي الهائل.
قد تدخل البشرية عصر «الإقطاع الخوارزمي»، حيث تتربع شركات قليلة تملك بنى الذكاء، بينما يتحول البشر إلى منتجين للبيانات أو مستهلكين لها.
إن لم يُدرك العالم هذه الحقيقة مبكرًا، سنجد أنفسنا أمام فجوة طبقية جديدة:
بين من يصنع الذكاء… ومن يستهلكه،
وبين من يملكه… ومن يعيش داخله ضيفًا.
اللغة: مرآة العقل أم محاكاة له؟
من أكثر الأمثلة إثارة التي يستند إليها المؤلف تطوّر نماذج اللغة. فقد تحوّل السؤال من: هل تفهم الآلة اللغة؟ إلى سؤال مربك أكثر: هل اللغة نفسها دليل كافٍ على الفهم؟
حين يتحدث إنسان بطلاقة، نفترض أنه يفكر.
وحين تتحدث الآلة بطلاقة، نشك في أنها «تقلِّد» فقط.
لكن الحد الفاصل بين التفكير والتقليد ليس واضحًا حتى عند البشر.
فنحن أيضًا نتعلم بالكثير من التقليد قبل أن نبتكر، ونفكر داخل قوالب نحاكيها من مجتمعاتنا ولغاتنا وثقافاتنا.
اللغة ليست انعكاسًا خالصًا للعقل، بل هي نظام اجتماعي نتعلم أداءه، والذكاء الاصطناعي يتقن هذا الأداء اليوم بامتياز.
إعادة تعريف الإنسان
في كل مرة خسر فيها الإنسان احتكارًا كان يظنّه جوهر وجوده –أن الأرض مركز الكون، أن الوعي حكر عليه، أن الطبيعة خُلقت لأجله– خرج أكثر نضجًا، وإن كان ذلك بعد مقاومة طويلة.
الآن نخسر امتيازًا آخر: امتياز الذكاء.
وقد تكون هذه الخسارة لحظة تحرّر، لا لحظة انقراض.
فحين نتوقف عن تعريف أنفسنا بما لا يستطيع غيرنا فعله، سنبدأ ربما بسؤال أهم:
ما الذي يستحق أن نفعله لأننا بشر؟
ليس من الضروري أن ننافس الآلة في الحساب، الذاكرة، التنبؤ، أو توليد النصوص.
قد يكون دور الإنسان القادم شيئًا آخر:
المعنى، القيمة، الاختيار الأخلاقي، التجربة الإنسانية التي لا تختزل إلى بيانات.
المفارقة أن الذكاء الاصطناعي قد يقودنا أخيرا إلى تعريف أكثر تواضعًا وصدقًا للذكاء البشري.
نحو مستقبل بلا تعريف نهائي
لا يقدّم أركاس إجابات جاهزة، بل يعيد صياغة الأسئلة.
فالذكاء، بنسختيه البشرية والاصطناعية، ليس كيانًا ثابتًا يمكن تأطيره، بل ظاهرة تتشكل مع الأدوات التي نستخدمها، والبيئات التي نعيش فيها، والقدرات التي نعترف لها بالشرعية.
ربما قبل أن نسأل: هل الآلة ذكية؟ علينا أن نسأل:
هل ما نعتبره ذكاءً اليوم سيبقى كذلك غدًا؟
وهل نحن مستعدون لعالم لا يمتلك فيه البشر لقب «الأذكى»… بل فقط لقب «الأكثر إنسانية»؟


