كتبت هناء بلال
«ربما علينا أن نستبق آلام الحياة كي لا تؤلمنا»..سوف أتدرب على فقد أمي..فكرة مجنونة تدرب عليها ياسر بطل
المجموعة القصصية "القصة ما قبل الاخيرة " للدكتور خالد غطاّس الصادرة مؤخرا عن دار عصير الكتب .
منذ الصفحات الأولى، يضعنا د. خالد غطاس أمام سؤال وجوديّ عميق:
هل يمكن للإنسان أن يتدرّب على الفقد؟
ليس بوصفه خسارةً، بل كخبرةٍ تصقل الوعي وتُهذّب الإدراك.
في القصة ما قبل الأخيرة، الفقد ليس مشهداً حزيناً بل مرآة، يرى فيها الإنسان صورته وقد تخلّى عن فائض التعلّق ليستعيد جوهره.
يعالج غطاس مفهوم الفقد كقيمة تربوية وفلسفية في آنٍ معاً. فهو لا يدعو إلى القسوة، بل إلى المصالحة مع النقصان، إلى التكيّف مع ما لا يمكن تغييره دون أن يتحوّل الإنسان إلى كائن مستسلم. يقول ضمناً إنّ التأقلم فعلُ نجاة، لكنّ الرضا اختيارٌ قلبيّ لا يُمنح إلا لمن فهم مغزى التجربة. وهنا تتجلّى بلاغته حين يزاوج بين الواقعيّ والرمزيّ، بين العلم النفسيّ والإيقاع الوجدانيّ في اللغة.
ثمّة خيط رفيع في نصوصه يربط بين الفقد والقيم. فكل خسارة، في نظره، تذكيرٌ بما يستحق البقاء. وكل انكسار هو بابٌ نحو إعادة ترتيب الأولويات. لذلك تنبثق القيم في الكتاب من رحم الوجع، لا من منابر الوعظ.
تبدو نصوصه كرسائل متفرّقة لكنها متّصلة، ترشد الإنسان إلى أن يخرج من سلبية التلقي إلى فاعلية المشاركة، أن يتحول من متألم إلى مُصلح، من متلقي النصح إلى حامل رسالة.
وفي سياق هذه الرسالة، ينتقل غطاس من الفرد إلى العائلة، من الذات إلى المجتمع، ليعيد صياغة العلاقة بين الأهل والأبناء. يرى أنّ التربية ليست استنساخاً بل تسليمٌ سلميٌّ للرسالة، وأنّ الأبوّة الحقيقية تكمن في قدرة الأهل على الإصغاء والاحتواء لا في فرض النسخ المكرّرة من ذواتهم.
إنه يعلن"بين السطور "أنّ السلطة التربوية إن لم تُرفق بالحكمة ستتحوّل إلى كسرٍ للعلاقة الإنسانية، وأنّ انتقال “القيادة” إلى الأبناء مع مرور الزمن ليس هزيمة للأهل بل اكتمالٌ للدائرة الإنسانية.
ينتقد تمدّد الشاشات في تفاصيل الحياة اليومية، إذ يرى أنّها اخترقت البيوت وأضعفت الروابط الحقيقية بين الأفراد، وأنّها ساهمت في خلق جيلٍ يعيش في “حضور افتراضي” وغيابٍ واقعيّ.
وقد ترجم هذا الوعي في رفض ام ياسر ان يحمل زوجها الهاتف أثناء وجوده معها فهي تحب التواصل الانساني وتكره الشاشات..
من هنا، يتقاطع في خطابه العلميّ الحسّ الإنسانيّ والفنيّ. فهو لا يقدّم المعلومة في قالب جاف، بل يغلفها بحكاية، يربطها بموقف إنسانيّ أو تجربة واقعية، ويمنح القارئ متنفّساً شعورياً وهو يلامس القضايا الأخلاقية والاجتماعية.
ولعلّ هذا المزج العقلي الإنسانيّ هو ما منح كتابه حضوراً وتأثيراً واسعاً، إذ لا يكتفي بأن يقنع العقل، بل يلمس القلب.
يبقى المؤكد أنّه استطاع أن يفتح نافذة على التغيير في زمنٍ تتراكم فيه الضوضاء، وأنّ كتابه "القصة ما قبل الأخيرة "ليس مجرد مجموعة نصوص، بل تجربة فكرية وعاطفية تحاول أن تعيد الإنسان إلى جوهره الأول.
فربما كانت هذه القصة ما قبل الأخيرة،
لكنها في جوهرها،
بداية الحكاية التي لا تنتهي حكاية الإنسان الباحث أبداً عن اتزانٍ بين الفقد والقيمة، بين الضياع واليقين.