«تركيا الجديدة» و«سوريا القديمة».. الاحتفال بالفشل في بلاد الشام
خبر من Goodpresslb
«تركيا الجديدة» و«سوريا القديمة».. الاحتفال بالفشل في بلاد الشام
كتب حسين جمو
تبرز في المنطقة حالياً عدة نماذج لبُنى سياسية مختلفة تحاول أن تعرّف شكل الدولة وعقدها الاجتماعي، اثنان منها في طور التشكل ولم تتبلورا بعد بشكل نهائي، لكن مبدئياً يمكن الحديث عن نموذجين بارزين. الأول هو النموذج التركي، وفعلياً هو الأطروحة الكردية لإعادة بناء الجمهورية. هذا النموذج يسعى إلى إعادة تعريف الدولة بشكل يكسر الأحادية القومية الممتدة منذ مئة عام، ويتيح للكرد الدخول في البنية السياسية كشركاء فعليين ومواطنين في الجمهورية، من دون التخلي عن أي من الأقاليم الوطنية المقيدة دولياً باسم تركيا. وهذه العملية هي بفضل فائض الكفاح الكردي هناك وليس نتيجة لـ«وعي الوطنية» في تعريف الجمهورية، لذلك «تركيا الجديدة» ما زالت فرضية وليس منجزاً، والدليل يكمن في النموذج الثاني:
إعادة إنتاج «سوريا القديمة» تجري برعاية الجار الشمالي نفسه، وهي معادلة تنطوي على معضلة تركية حيث البنية الأحادية للجمهورية تسعى إلى نقل نموذجها الذي يتفكك في الداخل، إلى الخارج، أي تصدير تركيا القديمة إلى سوريا الجديدة، وهي تعكس أزمة تركيا مع نفسها واغترابها المبكر مع «تركيا الجديدة» المتعددة القوميات حسب المفترض. وخلال فترة نجاة نظام الأسد المؤقت من الحرب الأهلية بين عامي 2017 – 2024 كانت الدبلوماسية التركية في مسار أستانة مع إيران وروسيا منصبة على إبقاء النظام السوري قومياً واشتراط عدم تخليه عن «الدولة القومية الأحادية» بل الضغط على الأسد لخوض حرب باسم «القومية العربية» ضد الكرد. وليس خافياً أن الثورة السورية لم تفسد إلا بعد تقييدها وعدم السماح لها بأطروحة تعددية، فنشأت التيارات الأولى للثورة، وهي ما تزال معارضة، على التحرك كنظام حكم قومي إلغائي معادي للتعددية بكافة أشكالها، الدينية والطائفية والقومية. ويبدو أن وزارة الداخلية التركية مقبلة على تحولات دستورية كبيرة – إذا تم استكمال مسار السلام مع حزب العمال الكردستاني – لكن وزارة الخارجية ما زالت متمسكة بنظام انقلاب 1980 القومي.
على المنوال ذاته النموذج السوري الناشئ تحت حكم هيئة تحرير الشام، امتداد في الذهنية السياسية لانقلاب حزب البعث الأول عام 1963. نموذج منغلق لا يشبه الانفتاح الكردي التركي الجديد شمال بلاد الشام في كردستان والأناضول، بل يُغرق المشهد بخطابات ومواقف وتصريحات تتسم بالانغلاق المتعدد الاتجاهات؛ فهو كولونيالي مُضمَر تجاه لبنان، مذهبي تجاه العلويين والدروز، واستعلائي قومي تجاه الكرد، بمشاريع مجازر انتقالية ومتنقلة.
وسوريا بلد لا خيارات وسط فيه؛ فإما أن يحكم بالغلبة الفئوية الفاشلة كما طيلة تاريخها منذ تغلّب معاوية وبنو سفيان عليها وبناء البلاد بهندسة سكانية جديدة باستدعاء جموع وتهجير أخرى، أو القطع مع هذا التاريخ العصبوي الممتد حتى اليوم، بما في ذلك النموذج الأسدي في تمثل نموذج بني أمية، والانتقال إلى التشاركية غير الذمية في إدارة البلاد. بلاد بلا ذهنية أقليات إنما بمجتمعات حيوية غير منفصلة وغير خاضعة في آن. وهي علاقة تعاقدية ليس مطلوباً فيها لأحد الاستسلام و«النخاسة الوطنية»، وهذا لا يتأسس ويصوّب إلا من رأس الحكم المفترض أن يكون رشيداً.
من المفارقات اللافتة أن ما يُبنى اليوم تحت عنوان «تركيا الجديدة» يتم أساساً على تفكيك ما يُسمى «تركيا القديمة» التي تكرر أخطاءها وتاريخها منذ قرن وكلفت تركيا تريليوني دولار صرفتها في المكابرة القومية ضد إصلاح الجمهورية. هذا التعبير – أي تكرار «تركيا القديمة» لنفسها – استخدمه أيضاً زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان لوصف حالة حزب العمال الكردستاني نفسه. وقد اعترف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يسعى إلى أن يكون زعيم «تركيا الجديدة»، بمسؤولية الجمهورية التركية عن «أخطاء كثيرة» وقعت في الماضي، مثل حرق القرى وتهجير السكان قسراً في ليلة واحدة، والأمهات اللواتي لم يُسمح لهن بالتحدث مع أبنائهن بالكردية داخل السجون، والسيارات من طراز «طوروس» التي استخدمتها الاستخبارات العسكرية في عمليات اغتيال وتصفية للمدنيين الكرد.
أما في سوريا، فإن النموذج غير المكتمل لما يُفترض أن يكون «سوريا الجديدة» لا يقوم على نقد «سوريا القديمة» أو تجاوزها، بل على وراثة أدبياتها وإعادة إنتاجها منذ بدايتها المتخيلة والوهمية وهو بنو أمية الذين لم يكونوا سنّة إنما جرى تعريفهم لاحقاً كـ«سنة بتأويل التاريخ» وليس سنّة في العقيدة حيث كانوا على عقيدة الجبرية ثم القدرية، وربما هذه العقيدة أكثر ما يناسب الحكام الجدد.
في المحصلة يُطلق على هذه الحكاية اسم «سوريا الجديدة». وأحد أبرز مظاهر هذه «السوريا الجديدة» هو ما يمكن تسميته بـ «حرية التعبير عن الكراهية» التي تتبناها أدوات إعلامها، إذ تُستخدم فيها دعوات التحريض على الإبادة كأداة ضغط إعلامية، كما حدث في حملة التعبئة العشائرية ضد السويداء، أو قبله في الدعوة إلى الجهاد ضد العلويين، ولاحقاً ضد الكرد للمرة الرابعة بعد عفرين وكوباني وسري كانيه. بل إن شعارات علنية ومخيفة بدأت تظهر، مثل الشعار الذي رُدِّد في أحد التجمعات الشعبية الصغيرة شمال سوريا: «لا إله إلا الله، والكردي عدو الله»، وهو نموذج لقوموية جديدة تحاول تغليف نفسها بغطاء ديني في محاولة للتهرب من صورتها الجهادية، لا تعكس أي انفتاح حضاري حقيقي، رغم كل ادعاءات منظريها عبر قرون.
ولا يبدو أن أمام السلطة خياراً غير أن تكون عنصرية في بنيتها إذا لم تقرر تجاوز «الدولة الأحادية» سواء القومية أو المذهبية، إذ تُصرّ على نموذج حكم غير معلن، لكنه واضح في جوهره، يقوم على ثنائية «الفاتحين والمغلوبين»، فلا مكان فيه للمساواة في التشاركية السياسية أو الإدارية. في الواقع، استعارت السلطة الجديدة مفاهيم حزب البعث العربي الاشتراكي بشكل شبه كامل في المكابرة الأحادية لتكوين الدولة، حتى في نظرتها للإسلام باعتباره ركيزة قومية تعزز وحدة سوريا العربية، عندما تجد نفسها مضطرة إلى الظهور بمظهر قومي عربي. واللافت أن هذا الاضطرار ليس نابعاً من الداخل بقدر ما هو موجّه للخارج، إذ لم يتم تحقيق أي توافق اجتماعي داخلي واسع ضمن عملية مصالحة وطنية شاملة، مع أن هذه المصالحة ضرورية لإعادة تعريف الدولة. في الواقع، ما تزال «الجمهورية العربية السورية» ترث أدوات النظام السابق في الحكم، وأهمها الهيمنة الفئوية على الثقافات العربية المتنوعة في الداخل، إلى جانب الإصرار على تهميش الكرد وإبقائهم خارج السلطة، بل وتقييدهم ضمن دولة مركزية صارمة.
وعلى المستوى الخارجي، يبدو أن السلطة وجدت أن من الأكثر أماناً أن تُكسى الدولة بغطاء «القومية العربية»، لتظهر بمظهر الدولة القومية، بينما تظل في الجوهر دولة إسلامية جهادية في مضمونها الداخلي. وهذا الشكل القومي للدولة يوفر لها قبولاً عربياً وإقليمياً، يُمكّنها من الاستمرار بممارسة الإقصاء الطائفي ضد مكونات الداخل، من خلال تحويلهم إلى «رعايا» يعيشون في أراضٍ «فُتحت عنوة»، بحسب منطق الفتوحات التقليدية. ومن هنا يمكن فهم الاعتداءات الخطابية أو الأمنية على العلويين، ثم على الدروز، وبينهما حملات التخويف تجاه المسيحيين، بوصفها ضرورات جهادية غير مُعلنة.
ومن المعروف في التاريخ الإسلامي أن الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، كان قد شكّك بصحة بعض «الفتوحات» التي جرت بطريقة سلمية في سواد العراق، بعدما قام بعض القادة العسكريين بنقض هذه الاتفاقات لإعادة فتحها عسكرياً، فقط لأن الفتح العسكري يمنح الحق في الغنائم، ويُحدد طرق توزيع العوائد بين الجند وفقاً لطبيعة المعركة. وتبدو هذه الذهنية حاضرة اليوم في بعض سلوكيات السلطة التي تريد أن تُعامل فئات من الشعب كما لو أنهم مغلوبون على أمرهم، وتُفرض عليهم أحكام الاستسلام الكامل وأن يجعل جماعة «سوريا الجديدة» «الوارثين» لزوايا البلاد وأقاصيها.
في كل الأحوال، لا توجد أي شروط إقليمية أو دولية تسمح لسوريا بأن تُعلَن كدولة إسلامية رسمياً في اسمها وهويتها، ولذلك فإن الالتجاء إلى شعارات العروبة والدولة الوطنية التقليدية هو المخرج المتاح. هذه الصورة — الطائر القومي الذي يُستخدم في الهوية البصرية — تمثل المظهر الخارجي المسموح به للعلاقات العربية مع دمشق. وللعرب، حين يكون الجهادي قومياً عربياً، فهذا يُعدّ تطوراً مرحّباً به، لأن الأيديولوجيا القومية العربية، رغم محدودية أنصارها اليوم، تُعدّ أقل طموحاً وخطورة من الحركات الإسلامية الجهادية، سواء الإخوانية أو القاعدية، نظرياً فقط، لأن منهج الإخوان الأحدث أزال الفروقات بين العروبة والإسلام في الحكم، وجعلهما واحداً، بشكل لم تتضمنه حتى أدبيات الإخوان التأسيسية في التحسس على سبيل المثال من «اللغة الكردية» والثقافة الكردية. لذلك خط الحكم الحالي أقرب ما يكون – كأسلوب- إلى تلاعبات الإخوان المكشوفة.
لذلك فإن ما يسمى بـ «الرعاية العربية» لدمشق تقوم على أساس دعم الدولة العربية السنية، أو على الأقل دعم شكلها الظاهري الذي يجعلها تبدو جزءاً من النظام العربي. ولكي تكون حكومة دمشق مقبولة ضمن هذه المنظومة، فإن الصيغة المناسبة لانضمامها هي أن تُعلن نفسها «جمهورية عربية سورية غير جهادية». وإضافة لذلك، يريدها حكام دمشق اليوم مركزية إخضاعية «من يحرر يقرر» و«الخطيفة لا تسأل محررها إلى أين تأخذني». ومن اللافت أن دمشق الجديدة ما زالت بلا خطاب، لا عروبي ولا إسلامي، سوى الصرخات الطائفية في ساحاتها وتغطية السلطة على الاعتداءات، وهي بلا أطروحة سياسية للحكم. لكن طريق السلطة – السلطة الخاوية من البناء الوطني الديمقراطي والفاقدة لأطروحة حكم وطنية- في سوريا يمر عبر هذه الصيغة المجربة، القومية والعروبة المتدينة، رغم أنها فشلت مراراً في السابق. كما أن المبدأ الذي قامت عليه الدولة القومية العربية المركزية في السابق، وهو العداء لإسرائيل، لم يعد حاضراً اليوم، في ظل توجهات متفرقة تهدف إلى ضم سوريا إلى اتفاقيات سلام مع إسرائيل، مما يفقد هذه الأطروحة حتى آخر مسوغاتها التاريخية والسياسية التقليدية، وهو تحرير الأرض. لذلك الجديد الذي تعتاش عليه «سوريا الجديدة العروبية الإسلامية» هو الدفاع عن وحدة ما تبقى – بالضبط – من سوريا والبحث عن «أعداء» متخيلين لهذه الوحدة في الداخل والعمل على كسرهم وتحطيمهم استباقياً كتعويض عن العجز والهزيمة المعلنة أمام الجبار الإقليمي: إسرائيل.