تفنيد مزاعم هاريس عن “غياب المقاومة الشيعية” خلال الحروب الصليبية
كتب باسم الموسوي:
يعتبر كتاب Lebanon: A History, 600–2011 للمؤرّخ الأميركي ويليام هاريس من أحدث المحاولات الغربية لإعادة كتابة تاريخ لبنان بمنهجية تربط بين البنى الاجتماعية والطائفية والتقلبات السياسية. غير أنّ أحد أبرز أطروحاته — وهي أنّ الشيعة في جبل عامل لم يقاوموا الصليبيين طوال القرنين الثاني عشر والثالث عشر — تستدعي مراجعة نقدية صارمة، كونها تتعارض مع شهادات المصادر المعاصرة للأحداث، ومع الوثائق التاريخية التي أوردها هاريس نفسه في مواضع أخرى من كتابه.
والبحث التالي يهدف إلى تفنيد هذا الادعاء عبر منهج مقارن يجمع بين:
نصوص هاريس نفسه (خاصة الصفحات 171–178).
المصادر الأيوبية المعاصرة (ابن شداد، أبو شامة، ابن واصل).
كتاب حسّام الدين بشارة: أمير جبل عامل الذي وثّق السيرة التاريخية للقائد العاملي المقاوم حسام الدين بشارة.
ومن خلال هذا التحليل يتبيّن أنّ أطروحة هاريس ليست إلا قراءة مبتسرة تعتمد على مصادر منحازة، وتتجاهل معطيات تاريخية دامغة تثبت حضورًا شيعيًا فاعلًا في المقاومة ضد الغزو الصليبي.
أولاً: الادعاء المركزي لدى هاريس
يطرح هاريس موقفًا قاطعًا في الصفحة 172 وما بعدها، مفاده أن:
«لا أثر للمقاومة الشيعية ضد الفرنجة حتى سقوط مملكة القدس سنة 1187.»
【 】
ويضيف بأن الشيعة:
«كانوا يعيشون تحت الحكم الفرنجي المباشر في إطار تبعية إقطاعية، بلا رغبة ولا قدرة على المقاومة.»
【 】
بكلمات أخرى: هاريس ينكر وجود أي مقاومة شيعية ضد الصليبيين طوال ثمانين عامًا.
غير أنّ هذا الادعاء يتداعى عند فحصه منهجيًا، وعند قراءة النصوص التي أوردها هاريس نفسه في صفحات لاحقة.
ثانيًا: التناقض الداخلي في كتاب هاريس
بعد أن ينفي هاريس وجود مقاومة شيعية، يعود في الصفحة 178 ليذكر التالي:
وجود قائد شيعي محلّي هو حسام الدين بشارة
«السلطان صلاح الدين أقرّ سلطة حسام الدين بشارة، وهو ضابط من أصل شيعي محلي.»
【 】
دفاع بشارة عن قلعة تبنين وصموده بوجه الصليبيين
«إمارته على قلعة تبنين مكّنته من مقاومة الفرنج ومن الصمود أمام الأيوبيين أنفسهم.»
【 】
انتصار شيعي واضح في معركة جزين سنة 1217
«اجتمع المسلمون في محيط جزين — وهي منطقة شيعية — فهزموا الفرنجة، وقتلوا معظمهم وأسروا قائدهم.»
【 】
هذه النصوص من كتاب هاريس تتناقض جذريًا مع ادعائه السابق بأن الشيعة لم يقاوموا.
كيف يمكن — منهجيًا — الجمع بين القول:
«لا مقاومة شيعية حتى 1187»
وقول: «قائد شيعي محلي على رأس مقاومة فعلية في تبنين من 1187 إلى 1200»؟
الجواب: لا يمكن إلا إذا كان الادعاء الأول غير دقيق.
ثالثًا: دور الأمير حسّام الدين بشارة كمؤسسٍ للمقاومة العامليّة
يعتمد كتاب جعفر المهاجر على نصوص أصلية من:
أبو شامة – الروضتين
ابن شداد – النوادر السلطانية
ابن واصل – مفرّج الكروب
العماد الأصفهاني – الفتح القسّي
جميع هذه المصادر تؤكد أنّ:
1. حسام الدين بشارة كان من كبار قادة صلاح الدين
ولّاه صلاح الدين:
تبنين
بانياس
عكا
أي إنّه كان جزءًا من الجهاز العسكري الأيوبي.
2. قاد دفاع تبنين ضد الحصار الصليبي
المصادر (عدا ابن الأثير الذي تجاهل دوره لأسباب مذهبية وسياسية) تجمع على أنّ تبنين صمدت بفضل قيادة بشارة.
3. كان صاحب القرار العسكري في الجبهة الجنوبية
وقد اعتُمد عليه لضمان استقرار الشريط الممتد من صور إلى بانياس.
4. مقاومته امتدّت من 1187 حتى 1200
وهذا يجعل منه القائد الشيعي الأكثر تأثيرًا في مواجهة الصليبيين بعد صلاح الدين في تلك المنطقة.
إذن، ليس أنّ الشيعة “لم يقاوموا”، بل أنهم أنتجوا قائدًا بارزًا قاد جبهة كاملة ضد الغزو الصليبي.
رابعًا: معركة جزّين (1217): المقاومة الشعبية
يورد هاريس نفسه نصّ ابن الحريري:
«خمسمئة من الفرنج هاجموا جزين… فاجتمع المسلمون من المناطق المحيطة — وهي مناطق شيعية — فقتلوهم، وأسروا قائدهم…»
【 】
هذه ليست مقاومة فردية أو نخبوية، بل انتفاضة عامليّة كاملة.
وفي علم التاريخ العسكري، لا تُنتج المجتمعات الخاضعة أو غير المقاومة مثل هذه الهزائم الساحقة.
وبالتالي، تُعتبر معركة جزّين دليلًا مباشرًا على مقاومة شيعية منظّمة.
خامسًا: الصمود الطويل لصور (1110–1187)
صمود صور — وهو أطول حصار دفاعي في تاريخ الساحل الشامي خلال الحروب الصليبية — ارتكز على:
دعم الفاطميين
مقاومة عامليّة محلية
تحالف مع دمشق
وقد عاش العامليون حول صور، وكان دورهم واضحًا في الدفاع وإمداد الحامية.
هاريس تجاهل هذا العامل برغم أنه جزء أساسي في تاريخ المنطقة.
سادسًا: سبب وقوع هاريس في خطأ التعميم
يمكن تلخيص سبب خطأ هاريس في ثلاثة عناصر:
1. اعتماده على ابن الأثير دون نقد
ابن الأثير تجاهل دور بشارة بالكامل، وهو مؤرخ سلجوقي الانحياز، لا يعتدّ به كمصدر وحيد.
2. الخلط بين «الخضوع الإداري» و«غياب المقاومة»
وجود الإقطاع لا يعني غياب المقاومة.
بل يعني أنّ المقاومة تمرُّ عبر زعامات محلية — مثل بشارة — لا عبر الفلاحين.
3. استناده إلى فرضية “الانقسام السنّي–الشيعي” كمحرك لكل السلوك السياسي
وهذه قراءة إسقاطية حديثة، لا تُطابق واقع القرن السادس الهجري؛ حيث كان معيار التحالف هو العدو المشترك لا الهوية المذهبية.
سابعًا: النموذج العاملّي–الأيوبي: تجاوز المذهبية في مواجهة الاستعمار
تُظهر العلاقة بين بشارة وصلاح الدين أنّ:
الاختلاف المذهبي لم يمنع التحالف.
المقاومة كانت مشتركة: مركز أيّوبي + أطراف عاملية.
المشروع التحريري كان موحِّدًا، لا فئويًا.
وهذا يُبطِل السرديات التي تحاول تصوير الشيعة كطرف “خارج” المشروع الإسلامي العام في مواجهة الغزو.
لقد شكّل بشارة — مع قادة آخرين — جبهة مشتركة بين السنّة والشيعة ضد الاستعمار الصليبي.
الخاتمة:
إنّ القول بأن «الشيعة لم يقاوموا الصليبيين» قول غير صحيح علميًا، ومخالف للمصادر التالية:
كتاب هاريس نفسه
المصادر الأيوبية المعاصرة
الوثائق التاريخية حول حصار تبنين
معركة جزّين
دور الأمير بشارة
صمود صور
حركة تحرير الحصون بعد حطّين
وتؤكّد الوقائع أنّ الشيعة في جبل عامل كانوا جزءًا أصيلًا من الجبهة العسكرية التي تصدّت للغزو الصليبي، وأنّ دورهم — عبر الأمير حسّام الدين بشارة — كان جوهريًا في تثبيت نفوذ صلاح الدين في الجنوب الشامي، وفي إعادة التوازن الديموغرافي والسياسي للمنطقة.
وعليه فإن أطروحة هاريس ليست سوى قراءة ناقصة تعتمد على مصدر واحد منحاز (ابن الأثير)، وتتجاهل عشرات الشواهد القاطعة.


