الحيّ البيروتي الذي ذاع صيته: حيّ اللجا
خبر من Goodpresslb
ديانا الزين
حيّ اللجا
"عميلة، عميلة!" صوت امرأة تصدح في سوق الخضار. ألتفتُ وإذا بإمرأة مجهولة، بسيطة المظهر توّجه الحديث لي: "أنتِ لست صحافيّة، أرنا بطاقتك، لِمَ تصورين السوق؟". ابتسمت وقلت لها كلاما قاسيّا، ثم أكملتُ طريقي وأنا أبتسم. ليس غريبًا أن يحصل هكذا موقف في هذا الشارع الشعبيّ بامتياز، حيث أقطن قريبا بضع خطوات منه، وأشتري الخضار والفاكهة منه.. كلّ شيء متوّقع، وكلّ شيء مُباح ومسموح في حيّ اللجا!
حيّ اللجا أو حيّ "يلي إجا"، هذا الحيّ الشعبي المليء بالتناقضات، وهو ما تنطبق عليه مقولة: "صيت غنى ولا صيت فقر"، لأنه حيّ صغير جدًا في قلب منطقة كبيرة هي المصيطبة. في هذا الحيّ، لا يتشابه السكان، سواء لناحية الطائفة أو المذهب أو الجنسيّة أو المستوى المعيشي أو الأكاديمي. لكن، ما يُميز هذه المنطقة شيئان لا يجدهما المواطن في أحياء أخرى: لا يمكن لأحد الدخول إليه وتغيير أي شيء فيه، سواء أكانت مُخالَفة أو غيرها، ويمكن لأيّ من سكانها أن يعود في أية ساعة ولو متأخرة من الليل وهو مطمئن. أما السبب في ذلك، فهو سيطرة الأحزاب عليه، بطريقة ايجابيّة أكثر منها سلبيّة. ففي السابع من أيار من العام 2008، كان الحيّ الوحيد الذي لم تُطلق فيه رصاصة واحدة! فما سرّ هذا الحي؟
حي اللجا هو الثوب الذي يتغيّر لونه مع تغيّر الظروف، ويستقبل الحيّ الوافدين من بلاد ومناطق مختلفة، وهذا ما يجعله مميّزا. فحيّ "يلي إجا" استقبل الوافدين من الجنوب، فاختلطت دماء الجنوبي بدماء البيروتي، والعائلات التي تقطنه منذ زمن هي عيتاني وعانوتي وغيرها، ويقال إن الأكراد كانوا الأكثرية في هذا الشارع. وأذكر أن جدتي، التي يقع بيتها في منطقة كركول الدروز القريبة، كان تتعامل مع عاملة منزلية من أصول كردية، وكنت في طفولتي أنتظر العاملة هذه لأتامل شعرها الأشقر الطويل المجدول.
إذا، أصبح الحيّ خليطا سنيّا- شيعيّا، ويجب أن أذكر أن مجموعة قليلة من الأرثوذوكس تركت الحيّ إلى مناطق أخرى، وبقيت فيه مدرستان تابعتان للطائفة المسيحيّة هما: "المعمدانيّة" و"مار ساوريوس"، التابعة للأرمن، لكن وبحسب الأب المسؤول- وهو سوري الجنسية- سوف تستثمرها إحدى الشخصيات كمشروع مستقبلي، فيصبح بذلك هذا الحيّ_الشارع الصغير في منطقة أكبر هي المصيطبة. لكن صيته (صيت الغنى)، جعله يحتضن المصيطبة، بدل أن تحتضنه.
كل شيء موجود في الحيّ
يمكنك أن تجد كل ما تطلب في حيّ اللجا حيث يمكنك ألا تغادر الحيّ لمدة شهر أو أكثر! فهناك سوق للخضار أصحابه من السوريين، ومحال الباعة فيه من السوريين، ويحتضن أكثر من سوبرماركت، وميني ماركت، ولحامين وغيرهم. لا ينقص شيء في هذا المكان، حتى الأمان، تستطيع في حيّ اللجا أن تعود إلى بيتك في أيّ ساعة ليلّا، ولا يستطيع أحد أن يَمُسُّكَ بأذى.
محل صالح للحلويات، وهو من أشهر محال الحلويات وأقدمها. أذكر أنني كنت آتي أنا ووالديّ رحمهما الله من صيدا (قبل أن أقطن في الحيّ) لتذوق الحلو الشهيّ بسبب شهرته وطعمه اللذيذ، وما زال الكثيرون يقصدونه من أماكن بعيدة بهدف الشراء.
الأحزاب
تسيطر على حيّ اللجا قوّة الأحزاب، وتهتم الأحزاب بقضايا السكان ومشاكلهم، من تأمين الدواء والعمل والدعم للعائلات المُحتاجة. فلا يوجد محتاج في هذا الحيّ. كما ممنوع على أحد تجاوز حدوده، وممنوع على أحد زعزعة استقرار الحيّ أو افتعال المشاكل، وأية مشكلة يتم التعامل معها بهدوء وفي غضون دقائق.
سكان الحيّ
مختار المصيطبة محمد العانوتي، وهو من العائلات التي تتمّلك في المصيطبة، يخبرنا أن"حيّ اللجا هو حيّ صغير يقع ضمن منطقة المصيطبة ويمتد إداريا من سوق الخضار نزولًا نحو بيت الزعيم صائب سلام. وأصل كلمة المصيطبة مصطبة، فهي منطقة عالية لجأت إليها بعض العائلات، من الجنوب خصوصًا، فسُميّت بـ"حيّ اللجا". قديمًا، كان عدد سكانه قليل، ومعظم أراضيه أراض زراعيّة وبساتين. تسكنها العائلات البيروتيّة التي أصبحت تزداد عددًا مع الأيام بالنسب، وبدأت بإعمار تلك المنطقة. العائلات البيروتية التي سكنتها، وما تزال، هي: العانوتي، والعيتاني، والمناصفي، ووحيدي، وعليوان. وبعد "اللجوء" إليها، أصبح سكانها من المسلمين الشيعة والسنّة، ومن كان يسكن قديمًا من المسيحيين والدروز. يروي البعض أنه كان حيّا يسكنه الأكراد. في الحرب اللبنانية، "ظهرت طبقة جديدة هي طبقة أثرياء الحرب أو(نوفوريش)، وهم أصحاب المولدات الذين تبلغ ميزانيتهم حاليّا المبلغ المرقوم".
مقابل مكتب المختار عانوتي يوجد منزل تم تصنيفه كموقع أثريّ، لكن ساكنوه بعيدين عنه. والورثة جميعهم موجودون وهدمه ممنوع قانونا. ومن الأماكن القديمة جامع المصيطبة وعمره يفوق المئة عام، مقابل جامع المصيطبة يسكن الرئيس تمّام سلام حاليّا، وقد ورث البيت طبعا عن والده. ويستقبل تمّام سلام الجميع كلّ أحد صباحّا لأسباب مختلفة.
قصة عيش مشترك
من قصص العيش المشترك في هذا الحيّ قصة الحلاق السنيّ-الشيعيّ كمال طراف، وهو من بلدة ميدون بالبقاع الغربي ومواليد المصيطبة، أسس جدّه مصلحة الحلاقة التي ورثها والده بعد مجيئه من ميدون إلى المصيطبة بسبب القلّة، وبعد وفاته استلمها كمال الشيعيّ مع خاله السنيّ، إلى أن توفيّ فبقيّ وحده في المحل. كمال وخاله كانا مثالاً يحتذى به في الحيّ بالمحبة والوفاق.
وليد، صاحب محل (سي دي) أغاني وأفلام، أتت عائلته من ماردين بتركيا، واستقرت مباشرة في حيّ اللجا، ثم جنّسهم الشهيد رفيق الحريري عام 1994 وولد وليد وأخوته في الحيّ نفسه. لا يشعر وليد بالفرق بينه وبين أهل الحيّ، فهو يشعر أنه بين عائلته الكبيرة، فالعيش في الحيّ هادىء ومريح.
دارين مصففة شعر أتت من الجنوب بعد انفصالها عن زوجها. تخبرنا عن الحيّ الجديد وكيف استقبلها وأصبح لديها "زبونات" يأتين إلى محلها، وتعتبر محلها اضافة إلى كونه محلًا للتجميل، فهو أيضًا متنفس للنساء حيث تشكين لها صعوبات الحياة ومشاكلها اليوميّة. دارين لا تتعرّض لأيّ ازعاج في الحيّ، بالعكس، فوجود إمرأة في الحيّ آمن: لا تتعرض إمرأة "للتلطيش" أو الازعاج وإلا تمت محاسبته من قبل الشباب الموجودين.
حرب طوفان الأقصى
في الحرب، تحوّل الحيّ إلى خليّة نحل، وعجّ بالنازحين من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبيّة. فتحت المدارس الرسمية أبوابها لهم، وتأمنت كلّ المتطلبات والاحتياجات دون مشاكل تُذكر. يعتبر الجميع أن ذلك واجبا عليهم، وأن هذا الحيّ بالذات لا تنقصه النخوة والأصالة.
7 أيار
في 7 أيار2008، لم تُطلق رصاصة واحدة في الحيّ. وقد صُودرت بعض الأسلحة من عائلة في الحيّ تابعة لتيار المستقبل، لم يحصل أيّ حادث يذكر. فلا حاجة لـ7 ايار في حيّ اللجا، ولا لأيّة معركة كانت، فالحيّ يُحافظ على هدوئه، ويسعى القيّمون عليه إلى ايجاد الحلول للمشاكل كلّها.
فيلم وثائقيّ ورواية
بلقيس من سكان حيّ اللجا، تكتب كتبت رواية بمثابة وثيقة اجتماعية. "تكتب عنه، تُدخل القارىء إلى أحد بيوته، فيصبح حيّ اللجا بذلك مكانًا عليك زيارته، وسبر أسراره.. بلقيس صوّرت الحيّ الذي نزحت إليه بكلّ تفاصيله، وبمحبة فائقة".
"أرق"، وثائقي لداليا أشمر، يسبر أغوار شباب حيّ اللجا ومعاناتهم، وحياتهم التي تختلف في عاشوراء عنها في الأيام الأخرى. "نلطم في عاشوراء، ونتناول الحشيش بعد ذلك"، لا أمل في غدِ لهؤلاء، وكثير منهم عاطلون من العمل. أما حاليّا، فهم يفترشون الرصيف، يلعبون الورق في معظم الأحيان. يقول البعض إنهم يُقامرون، لكن الله أعلم. ففي الحيّ، يسكن أحد عناصر شعبة المعلومات، يُراقبهم من بعيد أم لا، وحده الله يعلم!
الحيّ القريب يُشفي
يقال إنّ الكنيسة القريبة لا تشفي، بينما حيّ اللجا يشفي من فيه بتنوع سكانه، مسلمين ومسيحيين (أثيوبيين أحيانا)، وأكراد، وسوريين، وبنغلادش، ويستطيع أيّ شخص أن يبدأ تجارته من هذا الحيّ، فهو لا يُقصيك ولا يرفضك، بل يرّحب بكلّ المارقين والدائمين، بشرط واحد: ألاّ تجعل من نفسك قائدًا، وألاّ تزعج سكينته وهدوءه، ما عدا ذلك، فحيّ اللجا يرّحب بكلّ "يليّ إجا أو بعد ما إجا!".
*تربويّة واعلاميّة
[gallery ids="86941,86940,86939,86942,86943,86944"]