ما سر الكهف الذي غيّر زعيم الصين ودفعه لتحدي أميركا بكل قوة؟

خبر من Goodpresslb

نوفمبر 3, 2025 - 00:14
 0
تبدى ذلك في جانب آخر من حكم شي. فمنذ وفاة ماو، ومع تبني سياسة الإصلاح والانفتاح، حرص الحزب على اختيار قادة يتجنبون الكاريزما الطاغية والسلطة المطلقة. كما يشير المؤرخ الأميركي غراهام أليسون، لم يكن الهدف الكفاءة وحدها، بل "ضمان ألّا يمتلك الزعيم جاذبية شعبية آسرة". ظنّت اللجنة المركزية أن شي سيكون متحدثًا مقبولًا باسم القيادة الجماعية، لا أكثر. لكن جين بينغ خرج عن هذا التصور سريعًا. ففي خلال عامه الأول، جمع السلطات كافة بين يديه، حتى لُقّب "الرئيس ذا كل شيء" فقد عمد شي إلى اقصاء المنافسين داخل الحزب، إذ لم يعيّن نائبًا له، ولم يظهر خليفة واضحًا له، وقاد حملة تطهير داخلية أزاحت أسماء بارزة، على رأسهم جو يونغ كانغ، رئيس جهاز الأمن الداخلي، الذي أصبح أول عضو في اللجنة المركزية الدائمة يُحاكم بتهم فساد. وبحلول عام 2017، أي بعد خمس سنوات من وصوله للحكم، ولشدة مركزيته، أضاف أفكاره إلى الدستور الصيني. التعديل على الدستور الصيني وضع فكر شي جنبًا إلى جنب مع الماركسية اللينينية، وفكر ماو تسي تونغ، ليكون أيديولوجية توجيهية للحزب الشيوعي الصيني. وقد برّر الحزب هذا الإدراج بإنجازات شي خلال ولايته الأولى، قائلًا: "على مدى السنوات الخمس الماضية، وتحت إرشاد فكر شي جين بينغ حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد، قاد الحزب الشيوعي الصيني الشعب الصيني من جميع القوميات في جهد متضافر لخوض نضال عظيم، وتطوير مشروع عظيم، ودفع قضية عظيمة، وتحقيق حلم عظيم، مُبشرًا بعصر جديد من الاشتراكية ذات الخصائص الصينية". منح شي نفسه أكثر من عشرة ألقاب، من ضمنها رئيس مجلس الأمن القومي، والقائد الأعلى للجيش، وهو لقب لم يحصل عليه حتى ماو، مؤسس الصين الحديثة. لكن الخطوة الأكثر جرأة جاءت بعد عام، في 2018 عندما ألغى البرلمان الصيني، بأغلبية ساحقة، السقف الزمني لفترات الرئاسة. من أصل 2963 نائبًا، امتنع ثلاثة عن التصويت، وصوّت اثنان فقط بـ“لا"، مما عبّد الطريق لشي لحكم البلاد إلى أجل غير مسمى، وطويت صفحة "القيادة الجماعية" التي أسسها دنغ شياو بينغ بعد تجربة الحكم الفردي المضطرب في عهد ماو. وفي عام 2023، انتُخب شي لدورة ثالثة بالإجماع رئيسا للصين ورئيسا للجنة العسكرية المركزية لجمهورية الصين، وهو أول رئيس صيني يحصل على هذا الاستثناء منذ عهد ماو. آنذاك، نشرت وكالة "شينخوا" الرسمية خبر الانتخاب بصيغة أدبية: "تصاعد تصفيقٌ مُدوٍّ في قاعة الشعب الكبرى عند إعلان نتائج الانتخابات. نهض شي، مرتديًا بذلةً داكنةً وربطة عنقٍ عنابية، من مقعده وانحنى للمشرّعين". وفقا لتقارير رسمية صينية، فإن إعادة انتخاب شي جين بينغ ارتبطت بما اعتُبر إنجازات اقتصادية واجتماعية كبيرة، مثل رفع الناتج المحلي، وتوسيع نظم التعليم والرعاية الصحية، لكن مراقبين يرون أن هذه النجاحات توازيها أيضًا تحديات تتعلق بالحريات السياسية وهيكل الحكم. فقد ساهمت سياسات شي، خلال العقد الماضي، وبحسب هذه التقارير، في ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي للصين من 53.9 تريليون يوان عام 2012 إلى 121 تريليون يوان (حوالي 17.37 تريليون دولار أميركي). وقضت سياساته بشكل فعال على الفقر المدقع، وأنشأت أكبر أنظمة التعليم والضمان الاجتماعي والرعاية الصحية في العالم. وارتفع متوسط ​​العمر المتوقع للصينيين من 74.8 إلى 78.2 عامًا خلال العقد الماضي. وانضمت الصين إلى صفوف المبتكرين في العالم، وشهد الجيش الصيني إعادة هيكلة ثورية شاملة، ليصبح قوة قتالية أكثر حداثة وكفاءة، وأصبح الاقتصاد الصيني يُمثل أكثر من 18% من الاقتصاد العالمي خلال السنوات العشر الماضية، وتجاوز متوسط​​ مساهمته في النمو الاقتصادي العالمي 30%. خلال العقد الأخير شهدت الصناعات الصينية طفرة على مستوى القيمة والجودة وكان لسياسات الرئيس الصيني شي جين بينغ نصيب الأسد من هذا التطور (الفرنسية) وفيما يتعلق بملف الفساد، وهو القضية المركزية داخل الحزب. أصدر شي ما يسمى "اللاءات الثلاثة" التي تتمثل في: لا للجرأة على الفساد، ولا للقدرة على الفساد، ولا للرغبة في الفساد. بناء على ذلك، قام شي بإصدار تشريعات ووضع لوائح قانونية نتج عنها إنشاء لجان رقابية داخل الحزب، ونظام ردع لمحاربة الجرأة على الفساد. وتشير التقارير الصينية إلى أن لجنة الرقابة التي أنشأها شي تعاملت مع أكثر من 74000 شخص مشتبه في تورطهم في الفساد والرشوة. هكذا، تحول شي، الذي رُفض انضمامه إلى الحزب تسع مرات، إلى رئيس بسلطات مطلقة. من منفى الكهف، إلى الرئاسة مدى الحياة في سن التاسعة والستين، رحلة امتدت ستين عامًا. وانتهت بالتحكم الكامل في الحزب والدولة. لكنها أيضًا، كانت بمثابة ردّ اعتبار متأخر لذاك الطفل المنفي. فقلب الأم يفعل أكثر من ذلك: لقد جعل من هذه الرحلة مشروع دولة، وشفاءً شخصيًّا في آن واحد. لكن ماذا عن عصا التتابع التي كانت تظهر جليًّا في سياق الصعود والتحديث الصيني، وحيث بنى شي على ما تركه سلفه، كما قال؟ هذا التقليد الذي أشاد به شي أكثر من مرة كان هو نفسه من كسره، حين اصطدمت العصا بخططه الخاصة وأجندته خلال السنة الأولى، تمامًا كما أشار إليه في مقابلته عام 2002. ومن الداخل إلى الخارج، امتدت هذه الأجندة إلى العالم، حيث تبدأ حكاية أخرى: "العم شي" يتصدر العالم ويحل محل "العم سام". العم شي ضد استعمار العم سام تلقفت الوكالات الغربية تعبير "شي دادا" وعلّقت عليه بسلبية. فالعم سام، بطبيعته، لا يستوعب تفوق الآخرين، ولا يرى في نجاح أي نموذج آخر سوى تهديد، يستوجب التكسير أو السخرية. لكن ذلك لم يؤثر في صورة شي المحلية والعالمية على ما يبدو، وسواء اتفق المرء أو اختلف مع توجهات الصين، فإن شي شخصية محبوبة محليًّا وتحظى باحترام عالميًّا. لقد تحدثت مع عدد من أصدقائي الصينيين، داخل الصين وخارجها، وبعضهم ناقد لسياسات الحريات الشخصية في بلادهم، لكنهم مع ذلك يستخدمون وصف "دادا" عند الحديث عنه، ويحترمونه باعتباره رجل عائلة قبل أن يكون رئيسًا. ليس فقط لرمزيته، بل لاقتناعهم بأنه يمثل نهجًا وطنيًّا في مواجهة السرديات الغربية، ويقود مشروعًا قوميًّا للنهضة. بالنسبة لكثيرين، فإن أي إساءة إلى شي تُعد إساءة إلى الجمهورية نفسها؛ لذا فإن دفاعهم عنه لا ينفصل عن دفاعهم عن الذات الوطنية. يقف "العم سام" بعددٍ لا يُحصى من الناطقين الرسميين وغير الرسميين، يتلكؤون في ممارسة حرية التعبير في بلادهم، ولكنهم يتحولون إلى نقاد أشاوس عندما يتعلق الأمر بخيارات الآخرين في بلاد أخرى. في عام 2017، نشرت نيويورك تايمز تقريرًا بدأته بعبارة: "السيد شي… لا يزال غير قادر على مضاهاة عظمة ماو"، ثم تابعت: "السيد شي بعيد كل البعد عن اكتساب قاعدة جماهيرية مماثلة لماو". شبّه التقرير شخصية شي بشخصيات "استبدادية" مثل ستالين وهوشي منه، قائلًا: "يُحاكي هذا اللقب الأبوي [شي دادا] قادةً استبداديين آخرين. فجوزيف ستالين، "أب الشعوب"، كان غالبًا ما يُحيط نفسه بالأطفال، مُجسّدًا بذلك سلطته المطلقة وكرمه. وهوشي منه، المعروف باسم "العم هو"، فعل الشيء نفسه في فيتنام". وإذا أمكن تجاوز الإشارة إلى ستالين، فلا يمكن التغاضي عن استحضار هوشي منه. فالاستعمار، حتى حين ينتهي، لا يتوقف عن ممارسة التنميط، ولا يكفّ عن التحقير من رموز من قاوموه. وهوشي منه لم يكن رمزًا عابرًا، بل قائدًا تاريخيًّا، حارب العم سام لتحرير جنوب فيتنام. هذه هي الحقيقة التي تستفزهم، وهي الأهم. الرئيس الصيني شي جين بينغ (يسار) وزوجته بينغ لي يوان  إلى مطار ماكاو الدولي بالصين، في 18 ديسمبر/كانون الأول 2019 (الأوروبية) أما هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) فقد نشرت تقريرًا بعنوان "من هو شي دادا؟" اقتبس التقرير، الذي كان قصيرًا، مقابلات مصورة مع طلاب أجانب داخل الصين تحدثوا بإيجابية عن لقب "شي دادا". وللتقليل من صدقية هذه الآراء، ختم التقرير بنقد ساخر مأخوذ من تعليق كُتب تحت فيديو المقابلات: "كم تقاضوا؟". يصف البعض هذه المقاربات بأنها لا تبتعد عن طريقة الغرب المعتادة في كسر الصور الرمزية للقيادة المُنافسة. وربما كان النقاش الذي يجدر بهؤلاء "الخبراء" أن يخوضوه يخص القلق من مستقبل الغرب أمام نهضة الصين، صعود العم شي مقابل سقوط العم سام، وليس الخوف على مستقبل الشعب الصيني. افتقر الإعلام الغربي إلى ربط هذه الشعبية الصينية لشخص شي بمفهوم أعمق: الوطنية الصينية نفسها. فلقب "شي دادا" لا يمكن أن يُفهم خارج سياق "قرن الإذلال"، وهو جوهر برنامج "التعليم الوطني" في الصين، الذي يبدأ منذ سن الخامسة ويستمر حتى الدكتوراه. وفيما يراها البعض دعاية رسمية، فإن الصينيين يصرون على أنها بناء لذاكرة وطنية منظمة. في قلب هذا التعليم، تقع حديقة مدمرة مشهورة جدًّا تسمى يوانمينغيوان في بكين. كانت يوانمينغيوان رمزًا للعظمة الإمبراطورية الصينية القديمة، وهي عبارة عن مجتمع ضخم من الحدائق والمعابد، وكانت مقرًّا صيفيًّا للأباطرة. دُمّرت بالكامل خلال حرب الأفيون، ونهبتها القوات البريطانية والفرنسية. ومنذ ذلك الحين، لم تُرمم عن عمد، كأن الصين قررت أن تبقي الجرح مفتوحًا، حاضنًا لذاكرتها، شاهدًا على ما حدث. وتعد اليوم، رمزًا للهوية الوطنية والنهضة الصينية، ورسالة حية لأجيالها: صين ضعيفة ستكون فرصة للغرب لإعادة احتلالها. هذا الموقع، الذي يُزار سنويًّا من قبل عشرات الآلاف من طلاب المدارس والجامعات، ليس مجرد مكان، إنه "نقطة الصفر" في السردية الوطنية الصينية. الحديقة لم تُنهب فقط، بل أُحرقت تمامًا. في عام 2017، أعلنت البروفيسورة غو دايهينغ انتهاءها من مشروع تقني ضخم لرسم خريطة رقمية لـ60% من المظهر الأصلي لقصر يوانمينغيوان، الذي عمل عليه 80 باحثًا واستمر مدة 15 عامًا. وجدت غو مذكرة بريطانية بقيت في المكان بعد انتهاء الاستعمار، كتب فيها أحد المستعمرين البريطانيين: "أريد أن أدمّر أكثر شيء يُحبه الإمبراطور، أريده أن يعيش أعمق أشكال الألم". لكن هل الغرب سبب كل أزمات الصين؟ ومع ذلك، إحدى الصديقات أجابتني بتحفّظ قائلة: "يؤسفني عدم قدرتي على تزويدكم بالتناقضات والديناميكيات الداخلية، إذ لا نملك القدرة على معرفتها. المعلومات الواردة من شخص عادي مثلنا أشبه بالثرثرة، مما يجعلها غير موثوق بها". صديقة أخرى أضافت أن "الخلفية الشخصية لشي تُعد مسيّسة للغاية داخل الصين، وتتأثر بشكل مباشر بالروايات الرسمية. ويمكن القول إن معظم ما هو متاح مصدره الإعلام الحكومي والمنشورات المرخّصة، ومن النادر جدًّا العثور على وجهات نظر نقدية كتبها باحثون من البر الرئيسي، وخصوصًا باللغة الإنجليزية، بسبب الحساسيات السياسية". هذا الغموض ليس غريبًا في السياق الصيني؛ فالبلاد تفرض رقابة مشددة على الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، وتمتلك أنظمة مراقبة وتحكم صارمة على المحتوى الإعلامي. ولكن نظرة أعمق إلى كيفية إدارة شي للسلطة تكشف أن ما يبدو وكأنه "حكم فردي قوي" يرتكز على أسس إستراتيجية معقدة تتضمن إعادة هندسة مؤسسات الدولة والحزب معًا. فرغم أن الصين تبدو ظاهريًّا دولة مؤسسات، فإن القواعد التي تحكم الحياة السياسية فيها، مثل حدود السن والتقاعد والفترات الزمنية للمناصب، ليست سوى أدوات مرنة يستخدمها القادة الكبار في سياق إدارتهم للمشهد. ففي عام 1997، استخدم جيانغ زيمين، الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني حينها، قاعدة تقاعد القادة ممن تجاوزوا 70 عامًا لإقصاء خصمه، رغم أنه هو نفسه كان أكبر من تلك السن. وبعدها في 2002، خفّض السن إلى 67 لإقصاء خصم آخر. شي جين بينغ ذهب أبعد من ذلك، إذ استغل مرونة هذه القواعد بشكل أكثر فاعلية، فأقصى التيارات المنافسة داخل الحزب، وقلّص نفوذ فصيل "رابطة الشبيبة" إلى أدنى مستوياته؛ فعلى سبيل المثال، بين عامي 2007 و2012، كان أربعة من أصل تسعة أعضاء في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي من هذا الفصيل، أما بين عامي 2017 و2022، فبقي منهم عضو واحد فقط. الرئيس الصيني شي جين بينغ (وسط) والرئيس الروسي فلاديمير بوتين (يسار) ورئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون يشاركون في عرض عسكري ببكين بمناسبة الذكرى الـ80 لنهاية الحرب العالمية الثانية، 3 سبتمبر/أيلول 2025 (رويترز) ويرى شي أن هذا التشديد في السيطرة ليس فقط ضرورة سياسية، بل هو حلّ لمشاكل عميقة ورثها عمن سبقوه. فقد أصدر وثيقة سياسية كبرى تُعرف بـ"القرار التاريخي"، اتهم فيها القادة السابقين بالضعف والتهاون، وبأنهم تسببوا في ضعف قدرة الحزب على تنفيذ السياسات، وسمحوا للفساد بأن ينتشر، مما أضرّ بصورة الحزب ووحدته. كما اعتبر أن التركيز المفرط على النمو الاقتصادي أفرز مشاكل بنيوية عميقة، لا يمكن حلها إلا من خلال تعزيز قيادة الحزب في كل مفاصل الدولة. بل وحتى الجيش، رأى أن ضعف السيطرة عليه سابقًا هدّد ليس فقط الأمن القومي، بل بقاء الحزب نفسه. لهذا السبب، يبرّر شي سلطته الشخصية القوية بأنها ضرورية لوحدة الحزب والدولة، ويستند في ذلك إلى رأي خبراء مثل البروفيسور شيوي تشي قوه، الذي يرى أن وجود زعيم واحد قوي يساعد الحزب في فرض نفوذه داخل المجتمع، ويزيد من استعداد الناس لطاعة أوامره. ويشير آخرون إلى أن الحزب قد يكون فعلًا اختار شي لهذا الغرض في 2012، بعد أن شعر بخطر ضعف القيادة خلال فترة زعامة هو جينتاو. ويبدو أن رؤية شي تستند أيضًا إلى دروس انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ يُظهر تركيزًا شديدًا على ما يراه أسبابًا أساسية لسقوط الحزب الشيوعي السوفياتي، مثل: تراجع الإيمان بالأيديولوجية، وفقدان السيطرة على الرواية التاريخية، وتفكك البنية التنظيمية، وانفلات الجيش من سيطرة الحزب. لذلك، فإن ما يقوم به شي اليوم من تعزيز سلطته وسلطة الحزب يبدو ترجمة عملية لذلك الاقتناع، وهو أن البقاء والاستقرار لا يتحققان إلا بمركزية شديدة في السلطة، لذلك قام بإقصاء المعارضة. الصين والعرب.. ما يهمنا ليس ما يهمكم تزامن صعود شي جين بينغ إلى قمة السلطة في الصين عام 2012 مع اندلاع ثورات الربيع العربي، التي أعادت تشكيل المشهد السياسي في العديد من الدول العربية وأعادت ضبط الخيال السياسي في المنطقة. إلا أن هذا التغير الكبير في المنطقة العربية لم يقابله تحول جوهري في سياسة الصين الخارجية اتجاه تلك الأحداث. لم يظهر شي بموقف مغاير لسابقَيه، بل حافظ على سياسة الحذر وعدم التدخل المباشر، متبنّيًا موقفًا خطابيًّا واحدًا اتجاه جميع الثورات، تمثل في الدعوة إلى: ضبط النفس، واعتماد الحلول السلمية، وتفعيل دور مجلس الأمن. لكن قراءة هذا الموقف لا تكتمل إلا بفهم الخلفية الفلسفية التي تحكم السلوك الصيني الخارجي. فقد التزمت صين شي بإرث دينغ شياو بينغ في البراغماتية السياسية. هذا يتضح من طريقة تعامل الصين مع نتائج الثورات: فهي لا تبني علاقاتها على أساس أيديولوجي أو انحياز سياسي، بل على أساس من ينجح في الإمساك بالسلطة، أيًّا كان لونه، أو توجهه، أو شرعيته. كما قال دينغ: "لا يهم إن كان لون القط أبيض أم أسود، ما دام يصطاد الفئران". وبتطبيق هذا المنطق، أقامت الصين علاقاتها مع الأنظمة التي أفرزتها الثورات، سواء كانت إسلامية أو عسكرية أو انتقالية، دون تمييز يُذكر، مع حرص واضح على تجنّب الوقوف إلى جانب طرف معين في لحظات عدم الاستقرار. الاستثناء الوحيد البارز لهذا النمط هو التعامل مع الثورة السورية، ولكن سرعان ما عادت إلى إستراتيجية لون القط. ففي بدايات الثورة السورية، تمسّكت بكين بموقف تقليدي يدعو إلى الحلول السلمية و"قيادة سورية" للعملية السياسية، وأبدت ترددًا ملحوظًا في دعم نظام بشار الأسد بشكل مباشر. لكنها مع الوقت، وخصوصًا بعد أن تمكن النظام من الصمود عسكريًّا بدعم روسي، تحوّلت إلى تبنّي روايته بالكامل: دعمه في محاربة "الإرهاب"، وتبرئة ساحته من الأزمة الإنسانية، وتحميل الغرب مسؤولية الانهيار السياسي والاقتصادي في البلاد. الرئيس الصيني شي جين بينغ (يمين) مع الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد في مدينة هانغتشو شرقي الصين، بتاريخ 22 سبتمبر/أيلول 2023 (رويترز) وعندما سقط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، تغيّر الخطاب الصيني فجأة وعاد إلى الحذر والانضباط الدبلوماسي. حيث امتنعت الصين عن إصدار أي دعم صريح للنظام السابق، واكتفت بالتعبير عن "القلق" والدعوة إلى "استقرار الوضع"، مؤكدة ضرورة التوصل إلى تسوية سياسية تحفظ مصالح الشعب السوري، دون أن تُشير إلى الأسد أو حكومته. هذا التحول يعكس الطبيعة العميقة لسياسة "لا يهم لون القط"، فالصين دعمت القط ما دام قادرًا على فرض الاستقرار. أما بعد سقوطه، فسرعان ما انكمشت إلى وضع الحياد الحذر، مفضّلة أن تنتظر التوازن الجديد قبل أن تُقرر دعم طرف بديل. وهذا يدل على أن الولاء في السياسة الصينية ليس شخصيًّا أو أيديولوجيًّا، بل هو وظيفي تحكمه المتغيرات. هكذا، تُظهر الأزمة السورية وباقي ثورات الربيع العربي، كيف أن براغماتية شي ليست مجرد مبدأ نظري، بل ممارسة سياسية مرنة تقيس العلاقة بالأنظمة من خلال قدرتها على الاستمرار، لا من خلال شرعيتها أو سرديتها. لكن إذا كان هناك استثناء، فهي علاقة الصين بإسرائيل! من الدعم الفلسطيني إلى مغازلة إسرائيل على صعيد القضية الفلسطينية وعلاقات الصين مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، شهد الموقف الصيني منذ السبعينيات تحولات متدرجة؛ من دعم صريح للقضية الفلسطينية إلى انفتاح غير معلن، ثم إلى علاقات علنية وثيقة مع إسرائيل. ومع وصول شي جين بينغ إلى الحكم، تسارعت الاستثمارات الصينية، بما في ذلك في المستوطنات الإسرائيلية، في تناقض واضح مع تأكيد بكين المتكرر على حتمية قيام الدولة الفلسطينية. وقد تعززت العلاقات الصينية الإسرائيلية بصورة لافتة، خصوصًا في قطاع التقنية. فبحسب دراسة لمؤسسة راند، استثمرت الشركات الصينية ما لا يقل عن 5.7 مليارات دولار بين عامي 2011 و2018 في هذا القطاع، لتصبح الصين لاحقًا الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل في آسيا، وأكبر مصدر لها عالميًا بحلول عام 2024، بصادرات بلغت 19 مليار دولار، أي في خضم الإبادة. هذا التقارب انعكس على خطاب بكين السياسي تجاه الصراع؛ إذ تراجعت حدة انتقاداتها لإسرائيل. فمع أن الصين اعتادت انتقاد الفيتو الأميركي في مجلس الأمن بشأن فلسطين، فإنها لم تُدن قط خط الإمداد العسكري الأميركي الضخم إلى إسرائيل. بل إن وثيقة "الهيمنة الأميركية وأخطارها" الصادرة عام 2023، التي تستعرض تدخلات واشنطن عالميًا، تجاهلت كليًا ذكر فلسطين، وهو التجاهل ذاته الذي تكرر في أبريل/نيسان 2024 مع صدور وثيقة "النفاق والحقائق حول المساعدات الخارجية الأميركية"، رغم أن الحرب على غزة كانت في ذروتها آنذاك. الرئيس الصيني شي جين بينغ (يمين) ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (رويترز) وبدلاً من أي ضغط فعلي على إسرائيل، اتجهت الصين إلى ملف المصالحة الفلسطينية عبر ما سُمّي "إعلان بكين"، وهو تحرك رمزي لم يغير في جوهر الأزمة. وحتى اليوم، لم تصف بكين ما يحدث في غزة بأنه "إبادة جماعية"، رغم اعتماد هذا التوصيف من هيئات قانونية دولية ودول عديدة، مكتفية بلغة حذرة تصف المأساة بأنها "أزمة إنسانية". تطرح هذه المسارات تساؤلات حول مستقبل الموقف الصيني: هل تواصل بكين مقاربتها البراغماتية التي توازن بين مصالحها الإستراتيجية وعلاقاتها مع إسرائيل، أم أن ضغوط الصراع ستدفعها إلى مراجعة سياساتها؟ الألم يقود الصين تقع مقاطعة شنشي، مسقط رأسي، على مشارف طريق الحرير القديم. واليوم، وأنا أقف هنا وأسترجع تلك الحقبة من التاريخ، أكاد أسمع صدى أجراس الجمال في الجبال، وأرى دخانًا كثيفًا يتصاعد من الصحراء ربما يمكن فهم موقف الصين من إسرائيل بالنظر إلى أن بكين لا ترى شيئًا أكثر أهمية من مشروعها الكبير، الذي يمكن أن تؤدي فيه تل أبيب دورًا ما. ففي ظل مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، تؤدي إسرائيل دورًا إستراتيجيًّا محوريًّا بوصفها بوابة بحرية وأرضية مهمة نحو أوروبا وأفريقيا. موقعها على البحر المتوسط يجعل منها عقدة وصل تربط بين آسيا والغرب، وتطوير بنية تحتية مثل مشروعات السكك الحديدية والموانئ يعزز من قدرتها على الربط بالشبكة اللوجستية العالمية التي تقودها الصين، ويدعم مشروع “ممر البحر الأحمر والمتوسط” لتجاوز قناة السويس وتقصير زمن الشحن. ويأتي دور إسرائيل أيضًا في دعم الإستراتيجية الصينية للانتقال من منصب “ورشة تصنيع العالم” إلى دورٍ ريادي في الابتكار التكنولوجي. فقد استثمرت الشركات الصينية الكبرى في عدد من الشركات الإسرائيلية التقنية، مما يمكّن بكين من الوصول إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي والطاقة والزراعة المتقدمة، التي قد لا تستطيع الوصول إليها بطريقة مباشرة عن طريق الولايات المتحدة أو حتى أوروبا. في مبادرة الحزام والطريق، لم يكن شي يطلق مشروعًا اقتصاديًّا فحسب، بل يصوغ امتدادًا لسردية شخصية حضارية تمتد من مسقط رأسه إلى كل أوراسيا. وقد يُرى هذا أيضا إعادة صياغة لمقولة صامويل هنتنغتون: "الغرب في مواجهة البقية" The West vs. the Rest إلى "البقية حول الصين" The Rest Around China بما فيها الغرب، ولكن ليس صراعًا، بل هو اندماج وتعاون. بذلك، يُعيد شي بعث الذاكرة الإمبراطورية من قلب نشأته، وبإطلاق مشروع طريق الحرير الجديد لم يكن يُطلق خطة دولية، بل يبعث طريقًا من ذاكرة شخصية؛ وتصبح شنشي، مسقط رأس شي، نقطة البدء لـ"مشروع القرن". لقد كان ذلك اختيارًا مقصودًا يمنح المشروع بعدًا زمنيًّا وشخصيًّا في آن معًا. فإذا كان هذا هو "مشروع القرن"، فربما كان عنوان هذا القرن "قرن شي"، وأصبحت الصين تُختزل رمزيًّا في شخصه، لا العكس. وهكذا، وللتاريخ القادم، سيظل اسم شي ومسقط رأسه مركز كل سردية وإنجاز يتحقق على امتداد هذا الطريق، سردية أُعدت لتبقى… أبدية. في لغة واشنطن، لم يكن طريق الحرير مجرد شبكة لوجستية، بل "حصان طروادة صيني" انطلق ولن يتوقف. ففي جلسة استماع في الكونغرس الأميركي عام 2019، وُصفت مبادرة الحزام والطريق بأنها "حجر الزاوية في السياسة الخارجية العدوانية التوسعية للحزب الشيوعي الصيني،" وأنها تُشكّل تهديدًا ثلاثيًّا لأميركا وحلفائها: تلاعب تجاري، واستغلال اقتصادي، وتآكل أمني. شبّه المتحدثون المشروع بلعبة الشطرنج الصينية "غو"، التي لا تظهر فيها الإستراتيجية في بداياتها، بل تُحاط الرقعة بهدوء، ثم تُغلق اللعبة على الخصم، حين لا يعود في مقدوره الرد، وعندها تتم مواجهته "بلا هوادة". وفي مواجهة طروادة، تناوب رجال العم سام على رجمه بالتصريحات، فقال باراك أوباما: "نفوذ شي… يشجع نزعة قومية شرسة"، وقال جو بايدن: طريق الحرير "مصدر للإزعاج" و"مقبرة للمشاريع الفاشلة"، ووصف شي بأنه "دكتاتور". أما دونالد ترامب، فقد رأى في جولات شي في آسيا "إزعاجًا للولايات المتحدة"، ووصف الصين بأنها "دولة تحريفية"، وطريق الحرير بأنه "فخ للديون". ومع ذلك، لم يُخفِ إعجابه بشخصية شي، وكرر أكثر من مرة: "أنا معجب بهذا الرجل… إنه رجل لامع". الرجل الذي جاء من الشرق راقبوا ذلك الرجل بواسطة لي كوان يو، رئيس سنغافورة وصديق شي جين بينغ، تعقيبا على وصوله للحكم في السنوات الأخيرة، برز شي جين بينغ أحد أكثر القادة المعاصرين تناولًا في الأدبيات الأكاديمية الدولية، متجاوزًا أحيانًا أسماء غربية كانت دائمًا في صدارة هذا النوع من الاهتمام. على سبيل المثال "الفكر السياسي لشي جين بينغ"، و"شي جين بينغ: حوكمة الصين" جنبًا إلى جنب مع تحليلات مثل "حزب الفرد الواحد: صعود شي جين بينغ ومستقبل الصين كقوة عظمى"، و"عن شي جين بينغ: كيف يُعيد شي تشكيل الصين والعالم من خلال الماركسية"، و"شي جين بينغ: المسيرة السياسية، الحوكمة والقيادة". بل وُصف بـ"الإمبراطور الأحمر" في كتاب يحمل العنوان ذاته، وظهر باعتباره "أقوى رجل في العالم" كما في الكتاب الذي حمل هذا التوصيف صراحة، وخصصت له دراسات تحليلية مثل "أثر شي جين بينغ"، و"الثورة الثالثة: شي جين بينغ والدولة الصينية الجديدة". حتى والده، شي تشونغ شيون، لم يغِب عن هذا التدويل، إذ كُرّست له أعمال مثل "مصالح الحزب أولًا: حياة والد شي جين بينغ"، في حين تناولت دراسات أوسع تاريخ الصين الحديث من خلال شخصه، مثل "بناء الصين الحديثة: من عهد أسرة تشينغ إلى شي جين بينغ"، و"صين شي جين بينغ: الشخصي والسياسي"، و"دع الزهور الحمراء وحدها تتفتح: الهوية والانتماء في صين شي جين بينغ". أما طموحاته الدولية، فقد تناولتها مؤلفات مثل "الجرأة على النضال: طموحات الصين العالمية في عهد شي جين بينغ"، و"سعي شي جين بينغ إلى آسيا متمركزة حول الصين (2013–2024): فك شيفرة التفكير الإستراتيجي الصيني في فترة محورية". في الغرب، لم تعد تُطرح الأسئلة عن "أجندات الصين،" بل عن "الأجندات الخفية لشي"، كما يظهر في كتاب "شي جين بينغ: الأجندات الخفية لحاكم الصين مدى الحياة"، بينما وُضعت العلاقة الصينية الأميركية في إطار التحذير الإستراتيجي كما في "الحرب الممكن تجنبها: أخطار صراع كارثي بين الولايات المتحدة وصين شي جين بينغ". جانب من لقاء الرئيس الصيني شي جين بينغ (يمين) مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في فترته الأولى عام 2019 في قمة العشرين في أوساكا اليابانية (رويترز) حتى الأسئلة البسيطة مثل "من يكون هذا الرجل؟ أصبحت تصاغ في عناوين شبه بوليسية مثل "من هو شي جين بينغ؟ قصة زعيم الصين ورحلته نحو السلطة". وهكذا، من صفحات البحث الأكاديمي إلى رفوف المكتبات السياسية والقراءات الشعبوية، أصبح اسم شي جين بينغ ظاهرة، ومدخلًا لفهم هذا العالم المتغيّر. ومن أراد أن يفهم أين يتجه العالم، فعليه أن يبدأ من هناك… من شي، حيث يُكتب الآن فصل جديد من المستقبل، يحمل توقيع "شي" كما في كتاب "كيف يرى شي جين بينغ العالم؟ ولماذا؟". عن شي، يقول الباحث كيري براون في ورقة بحثية بعنوان "قوة شي جين بينغ": "إن الحزب هو من وجد شي، لا العكس. لقد كان بحاجة إلى شخص يحمل إيمانًا فطريًّا وبسيطًا بوظيفته وقدسيته". أما إليزابيث إيكونومي، فتقول في كتابها الثورة الثالثة: شي جين بينغ والدولة الصينية الجديدة: إن شي يتحدث عن "أعظم حلم في تاريخ الأمة الصينية الحديث" الذي أصبح يُعرف لاحقًا باسم "الحلم الصيني"، حلمٌ جماعي، على النقيض من النسخة الأميركية الفردية"، وتضيف أن هدف شي من طريق الحرير هو أن يجعل "كل الطرق تؤدي إلى بكين". العم شي يحل محل العم سام تفاديًا لمصير الاتحاد السوفياتي الذي عزاه شي إلى انعدام الشجاعة على المقاومة، حافظ الرجل على شجاعته في النقد الذاتي وتصويب مسار الحزب الشيوعي الصيني ليس بهدف تفادي المصير السوفياتي فحسب، بل الوصول إلى موقع قيادة العالم. في التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، سادت في الأوساط الفكرية والسياسية الصينية مخاوف عميقة من تغيير سردية "الصعود السلمي"، إذ إن أي تحوّل في نبرة الخطاب أو السلوك قد يدفع واشنطن إلى محاولة احتواء الصين، كما فعلت مع الاتحاد السوفياتي. ولذلك، اختير القادة بمنتهى الحذر، فكان هو جينتاو، سلف شي، "مفتقدًا للكاريزما" يوصف بـ"البيروقراطي الكئيب والعديم الذوق والباهت، والمُتقن لفن الخطب المنوّمة والمماطلة". يقول المؤرخ الصيني تشانغ ليفان: "كان هو جينتاو إداريًّا خجولًا، يتحدث كأنه في غير مكانه. أما شي، فهو وريث عائلة ثورية، ويتحدث كما لو كان في بيته". وبعد زيارة لي كوان يو لبكين، وضعه في مصافّ الثوار الكبار، وقال: "لديه رأيه الخاص… أضعه في فئة نيلسون مانديلا". فشي لا يحمل كاريزما فارغة، بل معبأة بالتاريخ الذي، من وجهة نظره، لا ينبغي أن يكرر إلا في حالة واحدة: استعادة عظمة الصين. لذلك فالتاريخ بالنسبة له، ليس ماضيًا، بل درس حيّ، وتحذير دائم. يعيد شي دائما الإشارة إلى قرن الإذلال، ليس فقط لتذكير الصينيين، بل هي رسالة إلى الغرب: لن نسمح بأن يكرر التاريخ نفسه. حتى التجارب التاريخية للآخرين لها أهمية قصوى ومركزية، إذ ينظر شي إلى تاريخ انهيار الأحزاب الشيوعية في العالم على أنه دروس تحذيرية للحزب الشيوعي الصيني، وعلى رأسها الحزب الشيوعي السوفياتي. في هذا السياق، لا يبدو شي منشغلًا بتقويم أخطاء التاريخ، بل بالحفاظ عليه كأداة تعبئة وشرعية، ويرى أن مجرد التشكيك في رموزه هو مدخل محتمل للانهيار. وبذلك، فإن التمسك بالحزب والاستمرار في بنائه هو القاعدة الأساسية لاستكمال مشروع النهضة الصينية، التي وضع لها شي تاريخًا محددًا يتوافق مع الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية الشعبية الصينية، بحلول منتصف القرن الجاري. ففي خطاب داخلي تساءل شي: "لماذا تفكك الاتحاد السوفياتي؟ لماذا انهار الحزب الشيوعي السوفياتي؟ ليجيب بأن السبب هو اهتزاز المُثُل والمعتقدات لدى الشيوعيين آنذاك. وأضاف: "إنه درسٌ عميق لنا! إن تجاهل تاريخ الاتحاد السوفياتي والحزب الشيوعي السوفياتي، ورفض لينين وستالين، ورفض كل شيء آخر، هو انخراط في العدمية التاريخية، وهو يُربك أفكارنا ويُقوّض منظمات الحزب على جميع المستويات". في خطاب المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر/تشرين الأول 2017، وهو الخطاب الذي بدأنا به مقالنا وشهد تفاعلًا عاطفيًّا شديدًا من مندوبي الحزب، أعلن شي بداية "عصر جديد" للصين بوصفها قوة عظمى، وقال بفخر: "الشعب الصيني شعب عظيم، والأمة الصينية أمة عظيمة، والحضارة الصينية حضارة عظيمة… سنكتب فصلًا أكثر إشراقًا في رحلتنا الجديدة نحو… الحلم الصيني بالتجديد الوطني العظيم". لقاء رئيس الوزراء الصيني تشو جونغ تاي (يمين) مع وزيرة الخارجية الأسترالية في يونيو/حزيران 2024 (غيتي) في رؤيته لعالم ما بعد الهيمنة الغربية، يسعى شي إلى أن تحل الصين محل الولايات المتحدة في أدوار القيادة العالمية. فهو لا يوجّه خطابه إلى الداخل الصيني فحسب، بل يقدّم مشروعًا سياسيًّا واقتصاديًّا يُطرح كنموذج بديل لما مثّله العم سام لعقود. وبالتالي، يحاول شي أن يجعل تجربة الصين نموذجًا قابلًا للتصدير. وقد عبّر عن ذلك صراحة حين قال: "إن الاشتراكية ذات الخصائص الصينية تقدم خيارًا جديدًا للدول والأمم الأخرى التي تسعى إلى تسريع تنميتها مع الحفاظ على استقلالها؛ فهي تجسد الحكمة الصينية وتقدم نهجًا صينيًّا لمعالجة التحديات التي تواجه البشرية". وكأن رسالته الضمنية تقول: بعدما أدّت مشاريع التحوّل الديمقراطي المدعومة من الغرب إلى جلب "كوارث عالمية"، جاء الوقت لطرح بديل صيني يعد بالاستقرار والنمو دون التفريط في السيادة الوطنية. وهو ما يطرح تساؤلًا جديًّا: هل يمكن أن يكون الاستقرار الذي يعد به هذا النموذج دليلًا على أن الحكم غير الديمقراطي، حين يكون فعّالًا، قد ينجح بالفعل؟ بعد خمس سنوات فقط، انتقل شي من الحديث عن صعود الصين وكونها قوة عظمى، كما جاء في خطابه لعام 2017، إلى الحديث عن قيادتها للعالم. في المؤتمر العشرين عام 2022، قال: "سنواصل العمل الجاد لبناء الصين لتصبح دولة اشتراكية حديثة عظيمة تقود العالم من حيث القوة الوطنية المركبة والنفوذ الدولي بحلول منتصف القرن". في إطار رؤيته لـقيادة العالم، خلال عقد واحد، توسّع نفوذ الصين بشكل ملحوظ، توسعت منظمة شنغهاي للتعاون، وتعززت مكانة مجموعة البريكس دوليا. لكن شي، الذي وصف القيادة بأنها "عصا تتابع"، لم يكتفِ بالحفاظ على إرث من سبقوه، بل انطلق نحو مشاريع أوسع وأكثر طموحًا. كسر شي نموذج الصعود الهادئ والمتدرج وأطلق مبادرة "الحزام والطريق" عام 2013، بهدف تحويل الصين إلى مركز رئيسي للتجارة العالمية: تبدأ منها حركة التجارة وتنتهي عندها. لكن الجانب الأكثر إثارة للجدل في هذه المبادرة كان حجم الاستثمارات في البنية التحتية التي تربط الصين بعشرات الدول. ومع مرور الوقت، شملت هذه الاستثمارات موانئ ومطارات وطرقًا حيوية، مما أتاح للصين حضورًا فعليًّا في مواقع تُعد نقاط عبور مركزية في حركة التجارة الدولية. ويرى بعض المحللين أن هذه المواقع، التي تُشبه "مداخل ومخارج الدول"، قد تمنح بكين أشكالًا من التأثير تتجاوز الاقتصاد. ولتعزيز الطريق، قام بتأسيس البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، الذي اعتبرته واشنطن تهديدًا مباشرًا لنفوذها المالي العالمي، لا سيما في ظل تداخله مع أدوار البنك الدولي ومنافسته لنظام بريتن وودز. ورغم الضغوط الأميركية، انضمت إلى البنك دول حليفة للولايات المتحدة مثل بريطانيا، وأستراليا، والهند، وفرنسا، وألمانيا، مما عزز شرعية الصين والمشروع على المستوى الدولي. وفي جيبوتي، 

الوسوم: