بقلم: د. أسامة توفيق مشيمش
جبل عامل ليس مجرد رقعة جغرافية على خارطة الوطن، بل هو وطنٌ بذاته. فيه كلُّ الجمال الذي تفيض به الطبيعة: النهر العذب، البحر المفتوح، الجبال الشامخة، الأودية العميقة، السهول الخصبة، والغمام الذي يلامس السحاب. ولكن كل هذا الجمال المادي لا يضاهي جمال الإنسان العاملِيّ، ذاك الذي يشبه صخرة بيته الصامدة في وجه الأعاصير، لا ينكسر، ولا ينحني، إلا لله.
في جبل عامل، لا تُقاس الوطنية بالشعارات، بل تُكتب بالدم. هنا، الكرامة ليست مجرد لافتة تُرفع، بل ثقافة متجذّرة في الروح، تورّثها الأمهات كما يورّثن أسماء الشهداء. وهنا، العطاء لا يُقاس بالمادة، بل بحجم التضحيات، حتى لو بلغت الروح، والولد، والبيت، والحجر.
ورغم كل ما قدمه أبناء هذا الجبل من تضحيات، منذ فجر المقاومة، مرورًا بكل مفصل من مفاصل الوطن، لا يزال يُطلب منهم، عند كل استحقاق، أن يثبتوا وطنيتهم من جديد. كأن دماءهم لا تكفي، كأن الشهداء لا يشهدون، وكأن الأرض التي احتضنتهم لا تُقِرّ لهم بالانتماء.
هل المطلوب أن يعتذروا لأنهم لم يساوموا؟ لأنهم لم يبعوا الوطن في بازار السياسة؟ أم لأنهم اختاروا أن يكونوا في خط الدفاع الأول، حين انسحب الآخرون إلى الخلف، أو تحوّلوا إلى مراقبين صامتين؟
وها نحن اليوم، وبعد الحشد الجماهيري الكبير الذي شهدته العاصمة بيروت على كورنيش البحر مقابل صخرة الروشة – ذاك المعلم اللبناني الخالد – نرى صورةً واضحة لا لبس فيها: هذا الجمهور، القادم من كل بيت مقاوم، لم يأتِ فقط ليشارك في حدث، بل ليؤكد انتماءه، حبه، وولاءه لقضيةٍ ما زالت تُشوَّه، فقط لأنها عصية على التدجين.
إن مشهد الروشة لم يكن مجرد حشد، بل كان رسالة صريحة لكل من يُشكّك، أو يحاول تقزيم هذه البيئة: نحن هنا، في قلب العاصمة، لا على هامش الوطن. نحن من صنعوا مجد هذا البلد، ولا نقبل أن نُعامل كمجرد "مواطنين تحت الاختبار".
لكن، للأسف، ما زالت بعض الجهات داخل الوطن تنظر بعين الريبة إلى هذه البيئة. لا لأنهم لا يعرفونها، بل لأنهم يعرفونها جيدًا. يعرفون صدقها، إخلاصها، وفداءها. ويخشون ذلك. فيحاولون تغطية عجزهم السياسي والأخلاقي، بإلقاء اللوم والتشكيك في من صمدوا حين فرّ الآخرون.
نعم، نحن نعلم أن الآخر ليس مضللاً فحسب، بل إن حقده أعماه، وحسده أضناه. يرى في ثباتنا عقدةً دائمة له، يرى في شهدائنا مرآةً تعكس خيبته. يريدنا أن نكون مثله، بلا قضية، بلا موقف، بلا مبدأ.
لكننا نقولها، كما قلناها مراراً: "تعالوا إلى كلمةٍ سواء". لا نبني وطناً بالإقصاء، ولا نحميه بالتخوين. هذا الوطن لن يقوم إلا على الاعتراف المتبادل، على شراكة حقيقية، تحترم التضحيات وتثمّن المواقف.
دعوة الحوار ليست ضعفًا. بل هي منتهى القوة. أما رفضها، فهو قرارٌ بالعزلة والانهيار. فالأمم التي ترفض أبناءها، تسير نحو حتفها بأقدامها.
نحن لا نطلب أكثر من حقنا. لا نريد منّة من أحد، ولا شهادة حسن سلوك من منظّري الوطنية الطارئة. نريد فقط أن نُعامل كمواطنين كاملي الحقوق، لا كمتّهمين دائمين يُستدعون إلى منصة الدفاع عند كل محطة.
وما حدث على كورنيش بيروت، قبالة صخرة الروشة، هو الجواب الأبلغ: نحن أبناء هذه الأرض، نحن أهل البحر والجبال، نحن الذين رفعنا رؤوسنا في زمن الانكسار. فإن لم يعجب هذا البعض، فليُراجع هو انتماءه، لا نحن.
وفي الختام، يبقى جبل عامل، بكل ما فيه، قلباً نابضاً لهذا الوطن. لا يمكن اختزاله، ولا يمكن تجاهله. لأنه، ببساطة، هو الأصل، وهو الثابت، وهو الذي لا يتوقف عن النبض مهما ضاق الصدر أو تعاظم الجحود.