يوم اللغة العربية: كيف صنعت الفصحى مجدها في الأغنية؟

في اليوم العالمي للغة العربية، رحلة ثقافية في الفصحى حين تحوّلت إلى أغنية خالدة، من أم كلثوم وفيروز إلى كاظم الساهر وماجدة الرومي

ديسمبر 18, 2025 - 10:54
ديسمبر 18, 2025 - 10:59
 0
يوم اللغة العربية: كيف صنعت الفصحى مجدها في الأغنية؟

 

في الثامن عشر من ديسمبر، لا تحتفل اللغة العربية بتاريخٍ مدوَّن على التقويم فحسب، بل تستعيد ذاكرتها الطويلة وهي تمشي بين القصيدة والصوت، بين الحرف واللحن. إنها لغةٌ وُلدت لتُتلى، ثم كُتِب لها أن تُغنّى، فصارت الكلمة فيها نغمة، والبيت الشعري مقامًا، والبلاغة إحساسًا يُسمَع قبل أن يُفهم.

العربية الفصحى ليست لغة تواصل عابر، بل كائنٌ حيّ من المعنى، حملته القرون من أفواه الشعراء إلى صدور المنشدين، ومن دواوين التراث إلى مسارح الغناء. لغةٌ صمدت أمام تبدّل الأزمنة، وتغيّر الذائقة، وضجيج اللهجات، وظلّت قادرة على أن تلامس القلب حين تُقال بصدق، وأن تسكن الذاكرة حين تتحوّل إلى أغنية.

وحين دخلت الفصحى فضاء الطرب العربي، لم تدخل مترددة ولا متحفّظة، بل دخلت واثقة بقدرتها على التعبير عن الحب والحنين والخذلان والشوق، تمامًا كما تفعل في الشعر. فكانت القصيدة المغنّاة إحدى أنقى صورها، ومرآةً لجمالها الخالد، حيث لم تعد اللغة حبيسة الكتب، بل صارت صوتًا يُردَّد، ولحنًا يُورَّث، ووجدانًا مشتركًا بين أجيالٍ متعاقبة.

ومن هذا المعنى، يأتي اليوم العالمي للغة العربية مناسبةً لا للاحتفاء بها كلغة رسمية فقط، بل للاصغاء إليها وهي تُغنّي… ولتأمّل كيف استطاعت الفصحى، عبر أصواتٍ خالدة، أن تتحوّل من نصٍّ مكتوب إلى إحساسٍ مسموع، ومن قصيدةٍ على الورق إلى ذاكرةٍ طربية لا تشيخ.

من القصيدة إلى الجمهور

شهدت الأغنية العربية الفصحى ازدهارها الحقيقي مع الروّاد، وعلى رأسهم أم كلثوم، التي قدّمت أعمالًا خالدة من شعر أحمد شوقي، أبرزها «نهج البردة» و«سلوا قلبي»، لتكسر الحاجز بين القصيدة الكلاسيكية والجمهور العريض. وسار على خطاها عبد الحليم حافظ في تجارب أقل عددًا، لكنها بالغة الأثر، مؤكّدًا أن الفصحى ليست حكرًا على النخب.

فيروز… الفصحى بصوت الروح

أما فيروز، فقد منحت الفصحى بعدًا وجدانيًا وروحيًا فريدًا، جعل القصيدة أقرب إلى صلاةٍ تُتلى مع الصباح. من «أعطيني الناي وغنّي» لجبران خليل جبران، إلى «يا جارة الوادي» لأحمد شوقي، و«لا تسألوني» لنزار قباني، وصولًا إلى «سنرجع يومًا» لهارون هاشم رشيد، استطاعت فيروز أن تُلبس الفصحى ثوب البساطة والشفافية، دون أن تنتقص من فخامتها.

كاظم الساهر… مشروع متكامل للفصحى

يشكّل كاظم الساهر حالة استثنائية في تاريخ الغناء العربي المعاصر، إذ لم يتعامل مع الفصحى كتجربة عابرة، بل كمشروع فني متكامل. على مدى أكثر من خمسة عقود، قدّم عشرات القصائد المغنّاة، معظمها من شعر نزار قباني، مثل «علّمني حبك»، «حافية القدمين»، «قولّي أحبك» و«الحب المستحيل». وتميّز الساهر بقدرته على تبسيط الفصحى موسيقيًا دون تفريغها من عمقها، فجعلها لغة عاطفية يومية قريبة من الجمهور.

ماجدة الرومي… أنوثة القصيدة وبلاغة الصوت

إلى جانب فيروز وكاظم الساهر ، تبرز ماجدة الرومي كواحدة من أبرز الأصوات التي حملت راية الفصحى في الغناء العربي الحديث. وقدّمت عبر مسيرتها إبداعات طربية أعادت الاعتبار للقصيدة المغنّاة، مثل «كن صديقي»، «اعتزلت الغرام»، «طلي بالأبيض»، «متى يأتي المساء»، «يقول إني امرأة» و«يا معذّب قلبي».

وتبقى أغنية «كلمات» واحدة من أكثر أعمالها شهرة وتأثيرًا، بما تحمله من لغة شعرية شفافة، تتحوّل فيها الفصحى إلى حالة وجدانية كاملة:

يُسمعني حينَ يراقصُني
كلماتٍ ليست كالكلمات
يأخذني من تحتِ ذراعي
يزرعني في إحدى الغيمات

والمطرُ الأسودُ في عيني
يتساقطُ زخّاتٍ زخّات
يحملني معهُ، يحملني
لمساءٍ ورديّ الشُرفات

في هذه القصيدة المغنّاة، تنصهر الكلمة بالصوت، ويتحوّل الغناء إلى اعتراف شعريّ عميق، يرسّخ مكانة ماجدة الرومي كإحدى أهم حارسات اللغة العربية في فضائها الفني.

يوري مرقدي… الفصحى بلمسة معاصرة

لم تكن اللغة العربية الفصحى خيارًا عابرًا في بدايات الفنان يوري مرقدي، بل شكّلت بوابة نجاحه الأولى. فمن خلالها قدّم نفسه كصوت مختلف، واعٍ لهويته الثقافية، في أغنيات مثل «عربي أنا»، «ماذا أقول» و«المرأة العربية». وتميّز مرقدي بمحاولاته الدائمة لمزج الفصحى باللمسة العصرية، سواء في التوزيع أو الأداء، ما جعله قريبًا من أذن الجيل الجديد.

وفي عودته الأخيرة إلى الفصحى، قدّم ألبومًا كاملًا يضم سبع أغانٍ مكتوبة بالعربية الفصحى، من بينها «أنا الموقّع أدناه»، «أحلام كبيرة»، «يا قاهرة» و«نافذتي»، مؤكدًا أن هذه اللغة لا تزال قادرة على التعبير عن القلق الإنساني والأسئلة المعاصرة بروح حديثة.

تجارب المزج والآفاق الجديدة

لم تخلُ الساحة الغنائية من تجارب جمعت بين الفصحى والعامية، مثل صباح فخري في «قل للمليحة»، وطلال مداح في «تعلّق قلبي»، وهبة طوجي في أعمال حديثة أعادت تقديم الفصحى بروح مسرحية معاصرة، ما ساهم في إعادة جذب الأجيال الجديدة إلى هذا اللون الغنائي.

وفي السنوات الأخيرة، شكّلت تجربة عمرو دياب مع الفصحى عبر أغنية «والله أبدًا»، المأخوذة من قصيدة للشاعر الأندلسي ابن زيدون، خطوة لافتة في مسار الأغنية الجماهيرية، وأكدت أن الفصحى قادرة على دخول فضاء البوب العربي دون أن تفقد أصالتها.

وهكذا، لا تبدو العربية الفصحى في الغناء مجرّد تجربة فنية عابرة، بل سيرة صوتٍ طويلٍ قاوم النسيان، ورفض أن يُختصر في القواميس أو يُحاصر في قاعات الدرس. هي لغةٌ حين تُغنّى، تستعيد شبابها، وحين تُلحَّن، تخلع عنها صرامة الورق، وتعود إلى أصلها الأول: الإحساس.