«كنت ألعب… فهدّدني أنه يعرف مكاني » ماذا يحد ث داخل عالم روبلوكس؟
تحقيق اجتماعي يكشف الوجه الخفي للعبة روبلوكس وتأثيرها النفسي والسلوكي على الأطفال، من خلال شهادة طفل تعرّض لتهديد وشعوره بالخوف داخل العالم الافتراضي، وتحليل علمي لدور الألعاب الرقمية في تشكيل وعي الطفل ومسؤولية الأهل في الحماية والاحتواء.
تحقيق : هناء بلال
«قال لي: إذا لم تفعل ما أطلبه، أنا اعلم مكان تواجدك وهذا كاف !!».
بهذه العبارة المقتضبة، يروي طفل لبناني لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره تجربته الأولى مع الشعور بالخوف وهواجس الاختطاف … ليس في الشارع، ولا عبر هاتف غريب، بل من داخل لعبة إلكترونية يفترض أنها مساحة للّعب والتسلية: روبلوكس.
الطفل يؤكد أنه لم يكن يعرف الشخص الذي هدده، ولم يلتقِ به يومًا. كل ما جمعهما كان شاشة، وشخصية افتراضية، ومحادثات بدأت بريئة داخل لعبة مشتركة. مع الوقت، تحوّل “الصديق” إلى صوت غريب يعرف تفاصيل، يطرح أسئلة، ثم يطلق تهديدًا مباشرًا أربك الطفل ودفعه إلى الصمت خوفًا.
هذه الحادثة ليست مجرد قصة فردية، بل مدخلًا لتحقيق يفتح ملفًا حساسًا:
كيف تحوّلت بعض الألعاب الإلكترونية إلى مساحات تواصل مفتوحة بلا حواجز؟
وأين تقف حدود الأمان عندما يصبح “الصديق” مجهول الهوية، ويختفي الفاصل بين الواقع والافتراض؟
من شهادة هذا الطفل، ننطلق لكشف الوقائع، تفكيك المخاطر، وطرح الأسئلة التي يتجنب كثيرون مواجهتها، حول سلامة الأطفال في العالم الرقمي… وفي لبنان تحديدًا.
لم تعد «روبلوكس» مجرد لعبة إلكترونية عابرة، بل تحوّلت إلى بيئة رقمية متكاملة تؤثر بشكل مباشر في تشكيل وعي الطفل ونمط تفكيره وسلوكه. ففي السنوات الأخيرة، تجاوزت ألعاب الفيديو دورها الترفيهي التقليدي، لتصبح عوالم مفتوحة يعيش فيها الطفل جزءًا أساسيًا من يومه، ويتفاعل ضمنها اجتماعيًا ونفسيًا، أحيانًا أكثر مما يفعل في واقعه الحقيقي.
تُعد روبلوكس واحدة من أكثر هذه المنصّات جذبًا وانتشارًا بين الأطفال والمراهقين، كونها لا تقوم على سيناريو واحد أو نهاية محدّدة، بل على آلاف الألعاب والعوالم الافتراضية التي يصمّم بعضها المستخدمون أنفسهم. يدخل الطفل هذا الفضاء ليختار شخصية، يخوض تجارب متعددة، ويتواصل مع لاعبين من أعمار وثقافات مختلفة، ما يمنحه شعورًا بالحرية والتحكم والانتماء.
في هذا السياق، لا يعود الطفل مجرد لاعب، بل مشارك فاعل في عالم افتراضي قد يلبّي احتياجات نفسية عميقة، مثل الشعور بالإنجاز والاعتراف والقدرة، وهي عناصر ذات أثر بالغ في مراحل النمو.
التأثير النفسي والسلوكي
في إطار هذا التحقيق، تحدّثنا إلى المتخصصة في الصحة النفسية الناشطة و الباحثة في الدعم النفسي -الاجتماعي ريان هاشم، المتخصصة في الشأن النفسي، التي وصفت ما يتعرّض له بعض الأطفال داخل هذه المنصّات بـ«حرب نفسية صامتة»، موضحة أن الطفل قد يجد نفسه تحت ضغط نفسي غير مرئي، ناتج عن التهديد، الابتزاز، أو الخوف من فقدان القبول داخل العالم الافتراضي.
من منظور علم النفس العصبي، يعتمد دماغ الطفل على نظام المكافأة المرتبط بإفراز «الدوبامين»، وهو الناقل العصبي المسؤول عن الشعور بالمتعة والتحفيز. وتعتمد روبلوكس، كسائر الألعاب الرقمية الحديثة، على مكافآت سريعة ومتكرّرة تُنشّط هذا النظام بشكل مكثّف، ما قد يؤدي مع الوقت إلى:
-
انخفاض القدرة على الصبر وتحمل الإحباط
-
ضعف التركيز في الأنشطة التي تتطلب جهدًا طويل الأمد
-
تراجع الاهتمام بالتفاعل الواقعي
-
ازدياد التعلّق بالعالم الافتراضي كمصدر أساسي للمتعة والإنجاز
سلوكيًا، قد يظهر الطفل أكثر عصبية عند إيقاف اللعب، أو أكثر انسحابًا من محيطه الأسري والاجتماعي، لا نتيجة سوء تربية، بل بسبب عدم اكتمال نضج الدماغ المسؤول عن تنظيم الدوافع والانفعالات.
«حرب نفسية صامتة»
وأشارت هاشم إلى أن الطفل في هذه الحالات لا يملك الأدوات النفسية الكافية للتمييز بين الخطر الحقيقي والافتراضي، ما يضاعف شعوره بالخوف والعجز، ويدفعه أحيانًا إلى الصمت أو الانصياع بدل طلب المساعدة.
مسؤولية الأهل: من المنع إلى الاحتواء
تؤكد هاشم ان دور الأهل لا يقتصر في التعامل مع الألعاب الرقمية على المنع أو السماح، بل يتجاوز ذلك إلى بناء علاقة واعية مع التجربة الرقمية للطفل. فالطفل لا يتعلّق باللعبة بحد ذاتها، بل بما تمنحه له من إحساس بالإنجاز والانتماء والسيطرة.
وتضيف "المنع المفاجئ أو الخطاب التخويفي غالبًا ما يعزّز التعلّق بدل الحدّ منه، ويضع الأهل في موقع الصراع بدل الشراكة". في المقابل، يساهم التوجيه القائم على الفهم والحوار في تحويل اللعبة من مصدر تهديد إلى تجربة يمكن ضبطها.
ويبدأ ذلك بوضع حدود زمنية واضحة وثابتة، تُطبّق بهدوء واتساق، إلى جانب الحوار المفتوح مع الطفل حول ما يعيشه داخل العالم الافتراضي وما الذي يجذبه إليه. كما تبرز أهمية توفير بدائل واقعية تمنحه الشعور بالنجاح والتقدير، عبر النشاطات الرياضية، الهوايات، والتفاعل الأسري الإيجابي.
فحين يشعر الطفل أن احتياجاته النفسية مسموعة ومُشبَعة في واقعه، يفقد العالم الافتراضي جزءًا كبيرًا من سيطرته عليه.


