كي يبقى لليسار غيرُ الأساطير
خبر من Goodpresslb
نزيه درويش - جريدة المدن
تطفو من حين إلى آخر، أو في إثر أحداثٍ معيّنة، وما أكثرها، نقاشات حامية على صفحات الجرائد وفي الإعلام الاجتماعي، تتناول قضايا اليسار واليساريين وتُعيد تموضعهم، أو تموضع بعضهم، هنا وهناك وهنالك. تموضعٌ لم يهدأ منذ سقوط منظومة الأفكار "الضابطة الكلّ" عندما انهار "الأب" الاتحاد السوفياتي فجأة، مُيتّمًا ملايين "الرفاق" وأصدقائهم حول العالم، ومُخلّفًا "عطالة عن العمل" الدماغي واليدوي عند كثيرين.
انسحبت مأساة اليُتم بطبيعة الحال على اليساريين اللبنانيين والعرب، الذين وجدوا أنفسهم فجأة، بعد أن انطفأت جاذبية المركز، أجسامًا مفكّكة هائمة على غير هدى، بعد أن كانوا بمعظمهم، مرتاحين من عبء التفكير و"إنتاج المعرفة"، كوْن "دار التقدم في موسكو"، ورديفاتها خصوصاً في لبنان وسوريا والعراق، قد تكفّلت بذلك، وأبلت بلاءً حسنًا في تحديد المعرفة "الواجب إنتاجها"، وشروطها هي ترجمة ونشر ما يرسمه ويترجمه غالبًا المكتب السياسي في موسكو، وفق فهمه الخاص للنظرية الاشتراكية واجتهاده الخاص، ووفق تقسيمه، هو أيضًا، العالم إلى فسطاطين. طبعًا شذّ عن القاعدة بعض المرَدَة ونالوا فورًا نصيبهم من الإقصاء أو التهميش من المؤسسة الحزبية ومَن يدور في فلكها ويدير مؤسساتها "الثقافية" والتثقيفية المموَّلة بسخاء.
الأسطورة الأولى: المركز
في المحصلة، نجحت المؤسسة السوفياتية في الترويج لأولى الأساطير اليسارية، وهي حصر ارتباط اليسار فكرًا وممارسة بالمركز موسكو. فصار كلّ خارجٍ عن هذه الحصرية مُنشقًا وخائنًا و"بورجوازيًا صغيرًا"! وصرنا لا نعرف عن سارتر وكامو مثلًا إلا خلافهما حول الالتزام والولاء، وما وافق أو خالَف العقيدة التي خطّها لينين وعمّدها ستالين بالحديد والنار. وكذلك الأمر بالنسبة لإيغناسيو سيلونيه ومن ثم إنريكو برلينغوير في ايطاليا. و"مُنعنا" تقريبًا من معرفة كل ما يتعلّق باليسار الأوروبي أو الأميركي الذي حاول التفلّت من قبضة موسكو وصياغة سياسات قائمة على مصلحة الفئات الاجتماعية التي يدّعي الاهتمام بها.
تبعَ هذا الترويج أو سبقه (لا فرق) محاولة فكّ اليسار عن الفكر والسياسة عمومًا وربطه بالأحزاب الشيوعية والاشتراكية حصرًا. فاليساري إن لم يكن مُحازبًا أو دائرًا في فلك المؤسسة يبقى مغضوبًا عليه ومنزوعةً عنه الصفة، بالكاد "يحقّ" له ادعاؤها، ويبقى محطّ شكّ وريبة ومُطالَبًا حتى آخر عمره، بما يشبه "فحص ضمير" دَوري من حرّاس العقيدة. علمًا أن اليسار، في نشأته وفي فهم عناصر وازنة فيه، هو خارج العقائد الجامدة والدوغما. ففي فهم هؤلاء، هو أولًا وأخيرًا موقف سياسي واضح، يُخالف الجمود ويُعارض "المحافظين"، وينحاز ببساطة إلى الضعفاء.
الأسطورة الثانية: التحرّر الوطني
نتج عن انتهاء مرحلة الاستعمار وانكفاء المستعمرين بعد ويلات الحرب العالمية الثانية، وعن هيمنة الاتحاد السوفياتي على الأحزاب الشيوعية العربية، وعلى اليساريين العرب بالإجمال، أن اختلطت المفاهيم اليسارية المنادية بتحرر الإنسان العربي (الفرد) وتقدّمه الاجتماعي بتلك المتعلقة حصرًا بالتحرّر الوطني. وفُرض على اليساريين تقبّل ومن ثم التنظير لتذويب الأفراد في الشعوب، ومن ثم تذويب الشعوب في الأنظمة العسكرية الناشئة على أنقاض الملَكيات، والتي سُميَت زورًا جمهوريات تحرّر وطني، ليس لسبب وجيه سوى لانخراطها في معسكرٍ في مواجهة معسكرٍ آخر. ولرفعها شعار "تصفية تركة الاستعمار"، الذي غالبًا لم يكن سوى واجهة بشعة وغير برّاقة لهيمنة الحزب والعائلة والشخص على مقدّرات وخيرات البلاد. وطبعًا تطوّع رجال (ونساء) الأيديولوجيا والمثقفون اليساريون العرب للترويج لأسطورة (ثانية) تمجّد التضحية بالحقوق والقانون والمساواة والتغيير والتقدّم الاجتماعي والاقتصادي، وهي القضايا الأساسية لليسار، في سبيل استتباب دولة التحرّر الوطني من الاستعمار (الآفل بطبيعة الحال)، المتحالفة مع معسكر الاشتراكية في مواجهة معسكر "الامبريالية".
ولم يقف الخلط في المفاهيم عند هذا الحدّ، بل تعدّاه أحيانًا إلى تبني دعوات "الوحدة العربية" في مقابل الدول "الوطنية"، واعتبارها قضية من قضايا اليسار العربي ردًّا على تقسيم المنطقة في اتفاقية "سايكس-بيكو". مع ما تحمله هذه المسألة التي "تورّط" فيها اليساريون العرب من انزياح يميني فاقع.
الأسطورة الثالثة: فلسطين
تزامن صعود دول التحرّر الوطني مع فاجعة ما حلّ في فلسطين. والذي لم يكن فاجعةً إلا لأن حكام العرب وضباط التحرّر الوطني قرروا أن شرعيتهم ومشروعية سلطتهم وسرقتهم الدول التي سيطروا عليها بانقلابات عسكرية سيستمدونها من ركوب موجة تحرير فلسطين، ولو جاء ذلك على حساب أهلها وقضيتهم، وعلى حساب شعوبهم بالذات التي انطلت عليها الخديعة مرّة أخرى. وبهذا المعنى، فإن شعب فلسطين كان ضحية الأنظمة العربية "التحرّرية" بقدر ما هو ضحية حظه العاثر بوقوع "قرعة" قيام إسرائيل في أرضه، أو تحديدًا على جزء منها.
فلولا "المسرحيات" العربية والتدخلات الدولية، بنتيجة حرب باردة وجدت لها ميدانًا جديدًا تجمع فيه أوراقها، لكانت مأساة الفلسطينيين محصورة في خسارتهم لجزء من أراضيهم، يستحقّون بسببها التضامن والتعاطف والتأييد، كأي شعبٍ انتزعت منه أجزاء من بلاده. كالهند مثلًا، أو كوريا، أو بولندا، أو اثيوبيا، أو السودان، أو سوريا التي خسرت لواء الاسكندرون، أو المكسيك التي خسرت كاليفورنيا وتكساس واريزونا ونيو مكسيكو، وغيرها الكثير من الأمثلة التي يزخر بها التاريخ القديم والحديث. وقد تكون شبه جزيرة القرم وإقليم دونيتسك (مساحة كل واحدة 27 الف كلم مربع) أحدث الخسائر المعاصرة التي سيُضحّى بها ثمنًا لتوقيع اتفاقية سلام تنهي الحرب الروسية الأوكرانية المستمرّة منذ شباط/فبراير 2022. وكانت جورجيا خسرت في 2008 إقليمي أوسيتيا وأبخازيا (20% من أراضيها) أمام روسيا أيضًا.
هنا مرّة جديدة اختلطت المفاهيم على أهل اليسار. فصار الشعار القومي أعلى من الوطني، والوطني أعلى من الفردي ومن قيمة الإنسان في فلسطين وفي بلاد العرب على السواء. وتحوّلت القضية المحقّة إلى سبب مباشر وغير مباشر للشقاء العربي المديد. وصارت قضية الإنسان العربي، في فلسطين أولًا وفي سائر بلاد العرب التي تدّعي الممانعة والمقاومة، بما هي قضية تقدّم اجتماعي واقتصادي ورفاهية وفتح آفاق المستقبل أمام الأجيال، وبما هي، قبل كل ذلك، الحق في الحياة الكريمة، والحق في عدم الموت فداءً لأحد، أصبحت كلها قضايا ثانوية، ليس فقط بالنسبة للأنظمة المستفيدة من استمرارها، وإنما أيضاً لقوى اليسار التي بالمبدأ وبالتعريف نَذرت نضالها وفكرها لتحقيقها.
الأسطورة الرابعة : المقاومة
كان لا بدّ لأسطورة دعم قضية فلسطين من يساريي العرب والعالم، وقد غزّتها مأساة غزّة، وأصبحت حاجة ضرورية كرافعة أخلاقية لليسار الأوروبي والعالمي نتيجة خسرانه لمعظم قضاياه الاجتماعية أمام اليمين الشعبوي، من أن تستولد لدى اليسار اللبناني أسطورته الخاصة. وهو الفاقد منذ زمن بعيد، لأسبابٍ ليس هنا مجال طرحها، لمعظم "أساطيره المؤسسة".
فالشعب السعيد والنضال من أجل السلم العالمي انتهى إلى حمل السلاح والاشتراك في حروبٍ أهلية تاه في زواريبها وشعاراتها ودفع أثمانًا باهظة لذلك. والعلمانية انتهت إلى إلغاء الطائفية السياسية، ومن ثم إلى التحالف مع طائفيين ومذهبيين في معظم معاركهم. أما الدفاع عن مصالح الفقراء والعمال والفلاحين والطبقة المتوسطة وذوي الدخل المحدود، فقد انتهى بمعظم هؤلاء في أحزابٍ وحركاتٍ أخرى لم تتوانَ عن رفع السلاح أحيانًا في وجه اليسار نفسه! وشعارات مثل "وحدة النضال" و"يا عمال العالم اتحدوا" انتهت هي الأخرى عند الالتحاق المخزي بأنظمةٍ قمعت شعوبها المفترض أنها المعنية بهذه الدعوات. والأمثلة على ذلك لا تعدّ ولا تحصى، من دول المنظومة الاشتراكية، الى سوريا والعراق وليبيا والجزائر واليمن وايران، والمنظمات الفلسطينية نفسها، التي مارست السلطة والسطوة أيضًا حينما وحيثما طالت أيديها وأقدامها.
فلم يتبقَ تقريبًا لليسار اللبناني غير أسطورة المقاومة. وهو المطرود منها بلا رحمة. ولكن هنا أيضًا "ضرورات المرحلة يا رفاق" تقتضي تقبيل يد الجلاد المعنِّف في الشام وفي طهران، والالتحاق لفظيًا وذميًا وذَنَبيًّا بعماماته المتزمّتة ومشاريعه التى لا علاقة له بها، والتي باتت تستدعي الاحتلال مرارًا لضمان ديمومة المقاومة والسلاح مرّة جديدة على حساب الناس وأرزاقهم ومستقبلهم.
الأسطورة الخامسة: التفوّق الأخلاقي والثقافي
في خضم كل ذلك، يحاول اليسار، اللبناني والعربي، احتكار ميدان الثقافة والفكر، الكتابة والقراءة، متكئًا على مكتبة ضخمة من الترجمات والمنشورات التي كان يوزّعها الاتحاد السوفياتي ووكلاؤه عن الفلسفة الماركسية والمادية والنظرية الاشتراكية إلى آخره. ويتفاخرون بسماكة مؤلفات لينين وستالين قبل ماركس وانجلز. ويهملون معظم ما هو خارج اللغة الروسية المترجَمة، عبادةً للأسطورة الأولى. ويولون مسألة القراءة والجدل والتفلسف أهمية كبيرة، يدّعون تفوّقهم فيها على أخصامهم من "اليمينيين" الذين "لا يأبهون للفلسفة والأدب" عمومًا. وهذه أسطورة أخرى. فالثقافة اللبنانية والعربية، والقراءة والكتابة إحدى مجالاتها فقط، ليست حكرًا على اليسار ولا هو قضيّتها المحورية والجوهرية. ولكن لا بأس، فإذا صدّقنا المقولات اليسارية السائدة بتفوّق اليسار في ميدان الثقافة، وبأن الثقافة والأدب والسينما وسائر الفنون "يجب أن تخدم الهدف"، نعجب كيف أن تأثير هذا التفوّق لم يتجاوز قبيلة اليسار وأهله تحديدًا.
مسألة أخرى لا تقلّ إدّعاءً، هي تفوّق اليسار الأخلاقي على اليمين في المطلق. إلى حدّ اعتبار بعضهم، ضمنًا أو علانيةً، أن اليمين شتيمة! جذور هذا التعالي "الأخلاقي" تعود إلى أن اليساري يعتبر نفسه، عن حقّ، معنيًا بقضايا الفقراء والمهمّشين وباختلال العدالة الاجتماعية، التي تسبّبها عادة سياسات اليمين. وهنا تختلط أيضًا بعض المفاهيم. فليس كلّ ربّ عمل يميني كما أن ليس كلّ أجير يساري. والحكومات، التي دائمًا ما ينادي اليساريون بتدخّلها في الاقتصاد هي نسبيًا أكبر أرباب العمل.
وإذا كنا نرى أحيانًا أن اليمين مسبّب لاستمرار مآسي الفقراء والفئات الضعيفة، فإن التموضع، في المطلق ومن دون برنامج واقعي، في اليسار لا يعني أنك أكثر رحمةً بهؤلاء. أنت فقط أبديتَ تعاطفًا مع مريض يعلّ في فراشه، وقد تكون ساعدتَ في معرفة سبب مرضه، ولكن من دون أن تقترب خطوة من حلّ مسألة جوعه وفقره وضعفه الخ. إلا إذا اعتبرتَ أن قراءة وكتابة المزيد من الكتب والروايات والأشعار، وتلاوة الأغاني والأناشيد "التقدّمية" على مسامع المريض، ستطوّل من عمره وتزيد من مناعته!
ملاحظة أخيرة
حاولتُ قدر المستطاع تجنّب تناول "المثقف اليساري" على وجه الخصوص، لضيق المساحة أولا ولثانوية دوره على الرغم من الصخب والضجة الصوتية التي تنتج عنه، وعلى الرغم من الحملة اليمينية التافهة والسخيفة التي تعظّم من شأنه لشيطنته. فإنتاج معظم مثقفي اليسار في السنوات الأخيرة اقتصر على ما يشبه "التعليق على الأحداث"، من غير تقديم مساهمة حقيقية واحدة في نقاش كيفية الخروج من المأزق الذي أدخل اليسار نفسه فيه.