حدودٌ تُرسم بالتهجير: عندما يصير السكان “عائقاً” أمام المشاريع العقارية

خبر من Goodpresslb

نوفمبر 2, 2025 - 17:57
 0
بقلم: باسم الموسوي في زمنٍ تتغيّر فيه أشكال السيطرة كما تتغيّر خرائط الطقس، لم تعد الحروب تُخاض فقط بالرصاص والدبابات، بل أيضاً بالعقود الممهورة بتواقيع المستثمرين، وبالجرّافات التي تمحو قرى كاملة لتشيد مكانها أبراجاً لامعة وطرقات سريعة. على الحدود الجنوبية لسوريا ولبنان يتبلور نمط جديد من الاحتلال: لا يرفع علمه علناً، بل يتزيّا بلباس “الاستثمار” و”التنمية”. غير أنّ جوهره واضح: إعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا، عبر معادلة تعتبر الإنسان الأصلي مجرّد عقبة أمام مشاريع الربح الأرض أولاً… ثم يُمحى أصحابها لا قوانين دولية، ولا مواثيق إنسانية، ولا حتى الذاكرة الجماعية قادرة على كبح شهية القوى النافذة. قُرىً نابضة بالزراعة والأسواق والعلاقات الإنسانية تُمحى من الخريطة، ويُمنع أهلها من العودة، فتتحوّل الأرض إلى “فرصة استثمارية”: أراضٍ شاغرة جاهزة للبيع أو التأجير لشركات كبرى، أو لتحويلها إلى “مناطق اقتصادية خاصة” بلا علاقة بأصحابها التاريخيين. هذا النموذج عرفناه في غزة: الحديث عن “إعادة إعمار” يخفي في طيّاته خططاً لبناء فنادق ومنتجعات على أنقاض بيوت مدمّرة، فيما يُمنع السكان الأصليون من العودة. واليوم، يتكرّر السيناريو في جنوب لبنان، حيث يُطرح مستقبل القرى المهدّمة كـ”مناطق استثمارية” بدلاً من الاعتراف بجريمة التهجير. جنوب سوريا: من الصراع الداخلي إلى الهيمنة الخارجية لم تُخلق الفراغات في الجنوب السوري من عدم. استُغلت الانقسامات المحلية وضعف النظام لتبرير تدخل خارجي. القرى التي دمّرتها الصراعات الداخلية دخلتها قوى جديدة تحت عناوين “الاستقرار” و”الحماية”، لتفرض مناطق محظورة على السوريين، تُدار فعلياً من خارج الحدود. هكذا صار الجولان محاطاً بحزامٍ عازل، لا يحميه فقط من الصراع بل يفصله عن أي مطالبة مستقبلية. أما السكان الذين عاشوا هناك جيلاً بعد جيل، فاختُزلوا إلى “مشكلة” يجري حلّها بالتهجير والتجفيف، ليُستبدلوا بمشاريع عقارية واقتصادية لا تعترف بوجودهم. لبنان: من “التحرير” إلى “الاستثمار” المفارقة اللبنانية أكثر مرارة. بعد عقود من المقاومة والتحرير، تتهاوى القرى الجنوبية تحت القصف وتُحتل المواقع الاستراتيجية، ثم يُطرح تحويل الأنقاض إلى “منطقة اقتصادية” بحجة “الترتيبات الأمنية”. هكذا يُمسح التاريخ بقرار إداري، وكأن البشر يمكن استبدالهم بعائدات سياحية. المطلوب من الأهالي ليس القتال، بل النسيان. أن يقبلوا بأن أرضهم صارت موقع مشروع استثماري، وأن تُزرع تربتها لا بالقمح، بل بمنتجعات لا مكان لهم فيها. إنه تطهير عرقي ناعم: لا يقتل، بل يُبعد. لا يعلن حرباً، بل يوقّع عقوداً. من يقف وراء هذا؟ لا تكمن القوة في الدبابات وحدها، بل في مكاتب العقارات وصناديق الاستثمار العابرة للقارات. هناك من ينظر إلى الخرائط لا كأوطان، بل كقطع أرض مربحة. هذا المنطق يتغذّى من تل أبيب، ويتكامل مع مراكز القرار الاقتصادي العالمي. يُقدَّم المشروع على أنه “حلّ للصراع”، فيما هو في الواقع استمرارٌ له بوسائل أكثر أناقة: قانون مُعاد تفسيره، استثمار مموّه، وتهجير مُسوّغ بشعارات التنمية. هل نحن عاجزون؟ لا. العجز ليس في القدرة، بل في الرؤية. فالمعركة اليوم لا تُخاض فقط بالسلاح، بل بالسردية. علينا أن نذكّر العالم بأن لهذه الأرض أصحاباً، وأن هؤلاء السكان ليسوا عقبة في وجه الاستثمار، بل ذاكرة حية وهوية لا تُمحى. لكن المواجهة تحتاج إلى وعي بأن ما يجري ليس حدثاً معزولاً، بل جزء من مشروع متكامل. والتفرّق في الرؤية يُضعف القدرة على المقاومة، فيما يربح الخصم لأنه يملك استراتيجية موحّدة. الخلاصة: الأرض ليست للبيع ما يُرسم على الحدود ليس تدبيراً مؤقتاً، بل إعادة هيكلة عميقة للجغرافيا والسلطة. المستهدَف ليس أمن الدول فقط، بل هوية الشعوب. حين تُبنى الفنادق فوق قبور البيوت، وتُدار الحدود كأنها مشاريع عقارية، فنحن أمام مشروع يعيد تعريف معنى الأمن والإنسانية معاً. المقاومة الحقيقية تبدأ من الذاكرة: أن نحمل القصة كما نحمل السلاح. لأن من يهدم البيوت يريد أن يهدم الرواية، ومن يشتري الأرض يسعى إلى بيع التاريخ. وأول أشكال الرفض أن نقول: هذه الأرض ليست للبيع لا بالدم، ولا بالدولار “لن تُبنى الجنة على أنقاض جحيم الآخرين.”