نبيه بري… صخرة التوازن الأخيرة في جمهورية المتعبين
كتب د. أسامة توفيق مشيمش
ليس سهلًا أن تكون في موقع تتشابك فيه الأزمات، وتتداخل فيه المصالح، وتتنازع فيه القوى المحلية والإقليمية والدولية على قطعة صغيرة من الشرق اسمها لبنان. وليس سهلًا أكثر أن تبقى ثابتًا في وسط هذا الزلزال المتواصل، محتفظًا بقدرتك على إدارة التناقضات، وعلى جمع المتخاصمين، وعلى منع سقوط البلاد في الهاوية. هذا الدور، على تعقيده، حمله دولة الرئيس نبيه بري على عاتقه طوال عقود، ولا يزال يحمله اليوم في مرحلة تُعدّ الأخطر منذ تأسيس الجمهورية.
إن ما يحمله الرئيس بري ليس «أمانة» واحدة، بل أمانات تتراكم فوق بعضها حتى لتبدو أثقل من أن تتحملها الجبال. لكنه، رغم ثقلها، يواصل القيام بها بلا ضجيج ولا ادّعاء. فهو رجل يعرف أنّ السياسة في بلد كلبنان ليست صراع نفوذ، بل فنّ صون الوجود. وبهذا المعنى، أصبح بري نقطة الارتكاز التي يتكئ عليها لبنان في لحظات الانكسار.
ليس لأن الجميع يوافقه، بل لأن الجميع يدرك—ولو متأخرًا—أن وجوده في وسط المشهد هو الضمانة الأخيرة لمنع الانفجار.
“أنا أبُ الصبي”… ليست مقولة، بل منهج حكم
الجملة الشهيرة التي قالها الرئيس بري ذات يوم: «أنا أبو الصبي»، تحوّلت إلى عنوان ثابت في الحياة السياسية اللبنانية. هذه العبارة ليست شعارًا للاستهلاك الإعلامي، بل اختصار لتجربة رجل يعرف أن انقسام البلاد ليس رفاهية يمكن احتمالها، وأن كل خلاف داخلي—صغيرًا كان أم كبيرًا—يمكن أن يتحول إلى شرارة تهدد السلم الأهلي.
ولهذا، يُبقي الرئيس بري أبواب مجلسه مفتوحة للجميع.
يُنصت… يصبر… يهدّئ… ويُعيد هندسة الكلمات كي تصبح جسورًا بدل أن تكون قنابل.
وحين يتدلّل السياسيون، ويتغنّجون، ويغرقون في النزاعات الصغيرة وكأنّ «الله خلقهم وما خلق غيرهم»، كما يقول المثل الشعبي، يبقى الرجل ثابتًا في موقع «الأب»: منصتًا، مسهّلًا، لا يملّ من إعادة جمع الأطراف مهما كانت الفجوات بينهم واسعة.
لبنان في زمن الانهيار الإقليمي
الإقليم من حولنا يتفكك: دول تتمزق، حدود تُعاد صياغتها، نزاعات تشتعل ثم تهدأ ثم تشتعل من جديد. العالم يتغيّر بسرعة، والشرق الأوسط يعيش على فوهة بركان. وفي ظل هذا الخراب السياسي الإقليمي، نجح لبنان—برغم هشاشته وضعف مؤسساته—في البقاء متماسكًا، ولو بالحد الأدنى.
هذا التماسك لم يكن نتيجة صدفة، ولا نتيجة قوة الدولة، ولا بسبب حكمة طبقة سياسية منهكة ومتعبة.
كان—بالمباشر—نتيجة وجود رجل واحد يعرف كيف يقرأ الخرائط، وكيف يفهم توازنات القوى، وكيف يمنع انهيار السقف على رؤوس الجميع.
الرئيس نبيه بري كان، ولا يزال، صمام الأمان السياسي الداخلي.
ليس لأنه الأقوى عددًا، ولا لأنه الأكثر صخبًا، بل لأنه الأكثر وعيًا بأن سقوط لبنان يعني سقوط آخر معقل للعيش المشترك في هذا الشرق المضطرب. هو الرجل الذي لم يفرّط يومًا بالصيغة، ولا بالميثاق، ولا بالهوية اللبنانية المشتركة التي أرادها الإمام موسى الصدر مشروعًا إنسانيًا قبل أن تكون مشروعًا سياسيًا.
بين المناكفات الداخلية والحكمة الهادئة
لا يخفى على أحد أنّ الساحة اللبنانية تعيش أسوأ مراحلها:
مناكفات سياسية جافة…
صراعات شخصية مقنعة بالشعارات…
انعدام مسؤولية لدى معظم القيادات…
ومشهد سياسي يتصرف فيه البعض وكأن البلاد ليست على حافة الانهيار بل على شاطئ الاسترخاء.
وسط كل ذلك، يظهر الرئيس بري بهدوئه المعتاد.
هو لا يصرخ.
لا يتحدّى أحدًا في الإعلام.
لا يرفع السقف إلى حدّ يكسر اللعبة.
بل يمسك بخيوط اللعبة كلّها، محاولًا ألا تُقطع.
يحاور هنا، يُطمئن هناك، يضغط عندما يجب، ويتراجع عندما يتطلب الأمر.
وفي كل مرة يكاد العقد اللبناني أن ينفرط، يأتي الرجل ليلمّ خيوطه من جديد.
التاريخ سيسجّل، بموضوعية، أنّ بقاء لبنان متماسكًا في ظل انهيار إقليمي واسع وتحوّلات دولية مفاجئة، لم يكن ليحصل لولا هذا النوع من الرجال الذين يعرفون كيف يحمون الوطن من نفسه قبل أن يحمونه من الآخرين.
رجل في زمنٍ يتطلب رجالًا
قد يختلف الناس حول سياسات الرئيس بري، وقد ينتقده البعض أو يعترض عليه، وهذا حقّ مشروع في الحياة الديمقراطية. لكن ما لا يمكن تجاهله هو أن هذا الرجل حمل لبنان في لحظات كان يمكن أن ينزلق فيها إلى التفكّك والضياع. حمله بصبر، وبحكمة، وبسعة أفق قلّ نظيرها.
في عصرٍ تتراجع فيه المسؤولية، ويختفي فيه الكبار، ويكثر فيه «الأبطال الورقيون»، يبقى نبيه بري واحدًا من الرجال القليلين الذين ما زالوا يعرفون أن السياسة مسؤولية لا مهنة، وأمانة لا موقعًا، وبذل لا مكسبًا.
وإذا كان لبنان اليوم يقف—ولو مترنحًا—فإن جزءًا كبيرًا من هذا الوقوف يعود إلى الرجل الذي ظلّ، رغم تعب السنين، يليق بأن يُقال فيه:
إنه نعمة لبنان… ورجل الدولة الأخير في زمن الفراغ.


