كتبت هناء بلال
في ظل الانغماس بالأضواء و الشهرة وارضاء المعجبين، يغرق الفنان في عالمٍ يجد نفسه محاصرا فيه غالبا بالأحكام المسبقة، يُطرح سؤال جوهري: هل يحق للفنان أن يعبّر عن رأيه في القضايا الكبرى، الإنسانية أو السياسية؟
وكأن الشهرة تنتزع منه حقه في الغضب، في الحزن، في التعاطف… في أن يكون إنسانًا يرى الظلم ويتألم له.
حين يرفع الفنان صوته ضد القهر، أو يعلن تضامنه مع شعبٍ يعاني من حكم الطاغية ، تنهال عليه التهم: "لماذا يتدخّل في السياسة؟" و"ليكتفِ بالغناء!"، متناسين أن الفن في جوهره ابن الوجدان الإنساني، وهل يعتبر الحياد مقبولا في القضايا الإنسانية الكبرى؟ لا بل كل أغنية أو لوحة أو قصيدة صادقة هي صرخة موقف قبل أن تكون عملاً جمالياً.
مع مرور الزمن يتبين لنا أن الفنان الحقيقي لا يعيش على هامش الأحداث، بل في قلبها.
من هنا، يصبح السؤال “هل يحق للفنان أن يتفاعل مع القضايا الكبرى؟” أشبه بسؤال “هل يحق للإنسان أن يشعر؟”.
ولعل تجربتا فضل شاكر وسانت ليفانت تقدّمان مثالين مختلفين، لكنهما يلتقيان في النقطة ذاتها: أن الفن بلا موقف، كالصوت بلا روح.
كان فضل شاكر من أولئك الفنانين الذين لم يكتفوا بأن يكونوا مجرد أصوات تُطرب، بل قلوبًا تنبض بما يؤمنون به.
حين عبّر عن مواقفه السياسية، انقسم الناس حوله بين مؤيد ومعارض، لكن ما لا يمكن إنكاره هو أنه اختار أن يكون صادقًا مع نفسه، وأن يتحمّل تبعات ما قاله وما فعله، مهما كان الثمن.
https://www.instagram.com/reel/DO3SDzcDARr/?igsh=NjV2aXVhZzJreGUz
لم يكن شاكر فنانًا عابرًا في المشهد العربي، بل حالة شعورية عميقة، تغنّت بالحب والإنسانية، ثم وجدت نفسها في مواجهة واقع أكبر من الأغنيات.
لقد دفع ثمن مواقفه غاليًا، وغاب صوته لسنوات، لكنّ هذا الغياب لم يمحُ أثره من الذاكرة.
ربما أخطأ في التوقيت أو في الطريقة، أو حتى في الحماس ليقارب ما وصفه البعض بالتطرف، لكن لا أحد يستطيع أن ينكر أن ما حرّكه كان إحساسًا صادقًا تجاه ما يراه من ظلم ومعاناة، شعور بالضعف أمام موجة من الاستقواء .
وهنا تتجلى الإشكالية الكبرى:
هل نريد من الفنان أن يكون مجرّد صوت يرتضي جمهوره ، ويقدم الترفيه فقط؟ أم إنسانًا يحمل قلبًا يرى ويسمع ويتفاعل ؟
وفي المقابل، يظهر جيل جديد من الفنانين مثل سانت ليفانت، الذين يستخدمون منصاتهم العالمية ليُسمِعوا العالم أصوات أوطانهم.
ففي زمنٍ تحاول فيه السياسة إسكات الحقيقة، يصبح الفن منبرًا للضمير الإنساني.
سانت ليفانت الذي اعترض على سحب علم فلسطين من احدى معجباته في الحفل ، وقرر الانسحاب من الحفل قبل ان تتدارك لجنة المهرجانات الأمور استطاع ان يرفع سلاح الموقف و الكلمة.
واستطاع ليفانت أن يوصل رسائله ليقول « إن الفلسطيني لا يُمحى، وإن القضية لا تُختصر بخبرٍ في نشرات المساء».
https://www.instagram.com/reel/DF-4WUBI5YN/?igsh=MjdpMGtrMjhydXcz
حين نشر على حسابه في إنستغرام رسائل تدعم صمود غزة، لم يكن يبحث عن شهرة إضافية، بل عن عدالة غائبة وصوتٍ لا يُريد أن يصمت.
كتب: “وقف إطلاق النار لا يعني السلام أو العدالة… لا تنسوا غزة أو فلسطين.”، في موقف يعبّر عن وعي فني وإنساني عميق، وعن فنان يرى أن واجبه لا ينتهي عند حدود الأغنية.
إنّ الفنان، في النهاية، ليس كائنًا معزولًا عن العالم، ولا صوتًا محايدًا في زمنٍ يضجّ بالوجع.
هو ابن هذا الواقع، يتعاطف،ينحاز و ربما يخطئ.. يتنفس آلام الناس وأحلامهم، ويحوّلها إلى لحنٍ أو كلمةٍ أو لوحةٍ تُلامس الضمائر قبل الآذان.
ولذلك، فإنّ حقه في التعبير عن رأيه السياسي أو الإنساني لا يجب أن يُنتزع منه، لأن الفن الحقيقي لا يعيش في فراغ، بل ينبض بالصدق والحرية.
فمن فضل شاكر الذي دفع ثمن مواقفه، إلى سانت ليفانت الذي يوصل رسالة وطنه إلى العالم بلغاتٍ عدّة، تتجلّى حقيقة واحدة:
أن الفنان الذي يصمت أمام الظلم يفقد جزءًا من إنسانيته، وأن من يغنّي للكرامة والحب لا يمكن أن يغضّ الطرف عن القهر والدمار.
[caption id="attachment_100426" align="alignright" width="226"] مسودة تلقائية[/caption]
ربما لا يتفق الجميع مع طريقة الفنان في التعبير، ولكن لا يمكن لأحد أن ينكر حقه في أن يشعر ويتفاعل... ربما حب فلسطين دفع كل منهما الانغماس في الدفاع عن الظلم كل بطريقته..
لأن الفنان، مهما تعددت الأضواء من حوله، يبقى إنسانًا أولًا… قلبًا قبل أن يكون صوتًا، وحين يتكلّم باسم القيم والحرية، فإن صوته يتحوّل إلى ضميرٍ ينطق باسم الإنسانية.