امتحان المسؤولية: الإنسان بين الأنا والإنسانية

نوفمبر 29, 2025 - 15:11
نوفمبر 29, 2025 - 15:17
 0
امتحان المسؤولية: الإنسان بين الأنا والإنسانية

 بقلم الدكتور أسامة توفيق مشيمش

في لحظة افتراضية أجد نفسي فيها في موقع قرار ومسؤولية، أتساءل بصدق وشفافية: هل أستطيع، رغم كل اختلافاتي الثقافية مع الآخرين، أن أتقبلهم كما هم؟ هذا السؤال ليس عابراً ولا رفاهية فكرية؛ بل هو امتحان حقيقي لجوهر الإنسان حين يوضع أمام سلطة أو موقع تأثير. فالثقافة ليست مجرد معرفة أو ترف عقلي، بل منظومة واسعة تضم المادي وغير المادي، الاجتماعي والرمزي، العادات والتقاليد، أنماط التفكير، القيم، السلوكيات، والرؤية للعالم. والتعامل مع هذا التنوّع يتطلب استعداداً داخلياً يفوق القوانين والإجراءات، ويحتاج إلى وعي عميق بحقيقة الإنسان ومكانته.

من هنا يبدأ السؤال الأكبر: هل يمكن للمرء، حين تتاح له فرصة التأثير في مصائر الناس، أن يتجاوز ذاته؟ هل يستطيع أن يخفّف من تضخم الـ«أنا» لديه ليصل إلى تلك الدرجة من التواضع التي لا تُنقص مكانته بل ترفعه، تواضع يصل بالإنسان إلى مرتبة أعلى؛ إلى مقام «العبودية المطلقة لله»، لا بمعنى الخضوع الضعيف، بل بمعنى الإدراك الناضج بأن الإنسان عبدٌ أمام الحق، لا سيداً على البشر.

إن اللحظة التي يعي فيها الإنسان هذه الحقيقة، هي اللحظة التي يبدأ فيها الخير الإنساني بالتجلّي. خيرٌ لا يتعارض مع القضاء والقدر، بل يتكامل معه؛ إذ لا معنى للإيمان بالقدر إن لم يقترن بالفعل الإنساني المسؤول. فالإنسانية الصافية ليست شعاراً ولا خطبة، بل ثمرة جهد داخلي شاق يتطلب كبح الذات، وتحجيم الأنا، والانفتاح على الآخر دون خوف أو تحفّظ.

والقاعدة التي أرساها الوعي الديني العميق تختصر ذلك كله: «كلكم عيال الله، وأقربكم إلى الله أنفعكم لعياله». هذه القاعدة ليست جملة أخلاقية بل مشروع حضاري متكامل. فالناس جميعاً ينتمون إلى مصدر واحد، وفي خدمتهم تظهر حقيقة الإيمان. وهنا يصبح الإحسان معياراً لا يُناقش: إحسان بالكلمة، إحسان بالبسمة، إحسان برفع الظلم، إحسان بالدعم المادي حين يحتاجه أحد. كل تلك الأفعال الصغيرة والكبيرة تشكّل خارطة الطريق التي ترفع الإنسان من مجرد كائن يتفاعل مع الحياة، إلى عبد صالح يدرك مسؤولياته الأخلاقية والروحية.

فالإحسان بالكلمة ليس مجاملة، بل فعل يُعيد بناء قلب متعب، والابتسامة ليست رفاهية، بل صلة إنسانية تخفف حمل الآخرين، ورفع الظلم هو جوهر الرسالات، والدعم المالي هو اختبار القلوب، لأن المال ليس ملكية فردية بقدر ما هو أمانة. وهنا تتجلى الإنسانية الحقيقية: إنسانية لا تُقاس بالشعارات بل بالأفعال، لا تُقاس بالخطابات بل بالقدرة على أن تكون سبباً في تخفيف ألم أو سد حاجة أو حماية مظلوم.

وفي المقابل يقف نموذج آخر: الإنسان الذي يمنع «الماعون». ذلك الذي لا يقدّم خيراً، ولا يعين محتاجاً، ولا يتفاعل مع أوجاع الناس، ولا يتحسّس حاجاتهم. هذا الإنسان، مهما تحدّث عن الدين أو التزامه، يبقى بعيداً عن جوهر الدين. فالدين ليس شكلاً ولا خطاباً، بل حركة فعل حيّ. ومن يمنع الماعون لا يقرب الدين ولا يلامس الدرجات الإنسانية العليا، لأنه أغلق على نفسه باب الرحمة وأطفأ في داخله نور الفطرة.

إن المسؤولية—كل مسؤولية—هي امتحان للأخلاق قبل أن تكون امتحاناً للقدرة. والذين يظنون أن السلطة تُعرّف الإنسان مخطئون؛ فالإنسان يُعرّف نفسه أمام السلطة. هنا يُقاس منسوب التواضع، وهنا يظهر الفرق بين من يرى الناس شركاء في الإنسانية، وبين من يراهم أدوات في مشروعه. القبول بالآخر المختلف ليس خياراً تجميلياً، بل معيار أصيل من معايير النضج الإنساني والروحي. فاختلاف الثقافات لا يجب أن يكون سبباً للنفور، بل سبباً للاتساع؛ اتساع العقل والقلب والرؤية.

في النهاية، تبقى الحقيقة الأعمق، أن الإنسان لا يُخلَق ليكون سلطة على الناس، بل ليكون خادماً للحق، نافعاً لعيال الله، عاملاً في مساحة الخير التي تُقرّبه إلى خالقه. فالإنسانية تتحقق عندما يتحوّل الفرد من كائن مشغول بذاته إلى كائن مشغول بغيره، عندما يفهم أن العبودية لله لا تُنقصه بل ترفعه، وأن خدمة الإنسان ليست عملاً ثانوياً بل جوهر وجوده.

وهكذا، إن قُدّر لي يوماً أن أكون في موقع قرار، فإن المعيار الحقيقي لنجاحي لن يكون بما أملك أو بما أفرض، بل بما أقدم للناس، وبما أقدر أن أحققه من خير، وبما أستطيع أن أرتقي إليه من درجات الإنسانية التي أرادها الله لعباده.