لغز أحمد الشّرع: من خنادق إدلب إلى البيت الأبيض
مقال تحليلي يستعرض قصة أحمد الشرع من خنادق إدلب إلى الطموحات السياسية وصولاً إلى البيت الأبيض. قراءة نقدية لمسار معقد يجمع بين الحرب، النفوذ، والتحالفات الدولية، وكيف ينعكس ذلك على مستقبل سوريا والمنطقة.
كتب هشام عليوان في اساس ميديا:
“أنت ستكون قائداً عظيماً، وستدعمك الولايات المتّحدة”، بهذه الرسالة الخطّيّة الكثيفة رمزيّاً وسياسيّاً، أظهر دونالد ترامب مدى اقتناعه بالرئيس السوريّ أحمد الشرع، وفي سياق مثير، هو تقديم الدعم له بوجه محاولات نتنياهو تقويض حكمه، وإفشال مسيرته. فكيف نجح الشرع، وما يزال ينجح في استمالة أعدائه؟ ما هي الدروس التي استقاها من تجربته الجهاديّة ليكون جزءاً من المجتمع الدوليّ لا خارجه؟ كيف وصل إلى القصر انطلاقاً من الخندق؟
انتقل أحمد الشرع بسرعة فائقة من عتمة الخنادق والأنفاق إلى الأضواء الساطعة للقصور والفنادق، وذلك عقب عمليّة عسكريّة خاطفة استغرقت 11 يوماً فقط، العام الماضي، بدّد فيها أعداء الثورة السوريّة، مئات الآلاف من الجنود النظاميّين وأفراد الميليشيات الأجنبيّة ببضع معارك على الطريق من إدلب إلى دمشق، وبخسائر ضئيلة نسبياً (434 شهيداً).
لم تكن الرحلة فقط من مكان إلى مكان وحسب، بل كانت من عالَم إلى آخر، طوى فيها الجهاديّ السابق 21 سنة من المغامرات والرهانات والانتماءات، خاض فيها صراعات مؤلمة في بيئة شديدة التعقيد والخطورة. بدأها بوضع العبوات الناسفة في شوارع الموصل، لدوريّات الجيش الأميركيّ، بهدف قتل أكبر عدد من الجنود، وأنهاها ضيفاً مكرّماً في المكتب البيضاويّ عند الرئيس الأميركيّ الأكثر تشدّداً وتقلّباً في آن واحد، في تاريخ الولايات المتّحدة.
بدايات أحمد الشرع في العراق وفترة السجن
بدأ حضور أحمد الشرع في العراق قبل أن يصبح اسمه معروفاً في سجلات الفصائل الجهادية. دخل البلاد بعد الغزو الأميركي عام 2003 عبر الحدود السورية–العراقية، مستفيداً من حالة الفوضى التي سادت المنطقة الحدودية آنذاك، ومن الشبكات التي أنشأتها فصائل محلية لمقاومة الاحتلال. استقر في مدينة الموصل، حيث انخرط في مجموعة صغيرة تطلق على نفسها اسم “سرايا المجاهدين”، لم تكن ذات شهرة على مستوى العراق، لكنها كانت شديدة الحضور في الأحياء الشعبية التي عانت من انهيار الأمن والاقتصاد بعد سقوط النظام. هناك بدأ الشرع يتعلّم ببطء طبيعة البيئة العراقية المعقدة: العشائر، صراعات النفوذ، التداخل بين الدين والسياسة، والعداء المتبادل بين الفصائل السنّية نفسها.
في تلك المرحلة المبكرة، لم يكن الشرع قائداً ولا صاحب نفوذ، بل مقاتلاً شاباً يتدرّب على حرب العصابات، وعلى زرع العبوات الناسفة ضد الدوريات الأميركية. ومع الوقت، جذب انتباه مجموعات أخرى بسبب هدوئه، وذكائه الميداني، وقدرته على الاندماج في اللهجة والعادات المحلية بسرعة لافتة. كانت تلك السنوات الأولى هي التي شكّلت وعيه، ورسمت الخطوط العريضة لتحوّله اللاحق من مجرّد عنصر ميداني إلى شخصية ذات طموح سياسيّ، بعد أن رأى كيف تتصارع الفصائل على السلطة أكثر مما تتصارع على المحتل، وكيف تتقدّم الجماعات الأكثر تنظيماً سياسياً سواء كانت مدعومة من إيران أو ممولة عشائرياً على حساب الجماعات السنّية التي تقاتل بلا مشروع واضح.
لاحقاً، تمّ اعتقال الشرع عام 2006 على يد القوات الأميركية في العراق، خلال فترة تصاعدت فيها النزاعات داخل المقاومة السنّية. قضى ما يقارب خمس سنوات في السجون الأميركية بين 2006 و2011، حيث كانت فترة السجن بالنسبة له محطة حاسمة للتكوين الفكري والسياسي. في الزنازين المزدحمة، وبين الساعات الطويلة من الفراغ، ناقش الشرع مع معتقلين آخرين تجارب فصائلهم الجهادية الفاشلة، ودرس أخطاء التكتيكات العسكرية والاستراتيجيات التنظيمية، وتعمّق في فهم العلاقة بين القوة العسكرية والشرعية الشعبية. هذه المناقشات والحوارات الماراثونية أعطته نظرة ثاقبة حول أهمية الحاضنة الشعبية، والبراغماتية السياسية، ومرونة القيادة، وهي الدروس التي شكلت لاحقاً طريقه للتحول السياسي في سوريا.
أشاد الجنرال الأميركي ديفيد بترايوس لاحقاً بقدرة الشرع على التحليل السياسي رغم كونه معتقلاً، وكتب أن الجولاني “كان مختلفاً منذ العراق… جهاديّ بدماغ سياسي، وهذه معادلة نادرة للغاية”، مشيراً إلى أن هذه الخبرة المبكرة كانت الأساس الذي مكنه من الانتقال لاحقاً من دور مقاتل محلي إلى قائد ذو تأثير واسع على المسرح السوري والإقليمي.
لكن كيف نجا الفاتح أبو محمّد الجولاني، القيادي السابق في تنظيم الدولة الإسلاميّة، ثمّ قائد تنظيم القاعدة في سوريا، خلال مسيرته الأيديولوجيّة الوعرة، واستعاد اسمه الحقيقيّ “أحمد الشرع”، بسلاسة عجيبة، وهو الإنجاز الأبرز؟ والسؤال الأهمّ هو: كيف تحوّل من جهاديّ أمميّ افتراضيّ إلى سياسيّ وطنيّ واقعيّ؟ ومتى راجع أفكاره وآراءه؟ هل فعلها وهو في السجون الأميركيّة بالعراق، حين كان يصرف الساعات الطويلة من الفراغ المملّ في مناقشة المعتقلين الجهاديّين أصحاب التجارب الفاشلة من كلّ التلوينات الفكريّة، التي استوت مسائلها الخلافيّة في الوعاء الأفغانيّ إبّان قتال الجيش السوفيتيّ قبل أكثر من أربعة عقود؟ بل هل كان جهاديّاً حقّاً بالمعنى المعهود لأتباع “القاعدة” و”داعش” لاحقاً؟
درسان أساسيّان
لا بدّ لتبيان التحوّل “المفاجئ” للجولاني، من وجهة نظر موضوعيّة، من مراجعة دقيقة لمسار الرجل، ليس منذ أن وطئت قدماه سوريا عام 2011، برفقة ستّة أفراد، ومعهم حزمة من الأوامر من قائد “دولة العراق الإسلاميّة”، أبي بكر البغدادي (قُتل في محافظة إدلب عام 2019)، لتأسيس فرع لتنظيم الدولة في سوريا، تحت اسم “جبهة النصرة لأهل الشام”، بل بدءاً من دمشق نفسها، حين كان يرتاد مسجد الشافعي بحيّ مزّة الراقي، قبل عشرين سنة. هناك تلقّى ثقافته الإسلاميّة الأولى، حين كانت المساجد وأئمّتها والمصلّون، تحت أعين الاستخبارات، من داخلها وخارجها، وكانت الأحاديث ذات العلاقة بالواقع السياسيّ والاجتماعيّ لا تجري إلّا همساً، وبين قلّة من الأفراد الموثوق بهم.
تأثّر أحمد الشابّ كغيره من أبناء جيله، بمحطّات تاريخيّة مشهودة: الانتفاضة الفلسطينيّة عام 2000، وهجمات 11 أيلول في الولايات المتّحدة في العام التالي، ثمّ غزو أفغانستان، وغزو العراق عام 2003. ستكون السلفيّة الجهاديّة رأس الحربة في الصراع، والعنوان الأكثر جاذبيّة للشباب المتحمّس. لكنّها عبارة فضفاضة تضمّ في ثناياها، أفكاراً متباينة، واتّجاهات متضاربة، واستراتيجيات متناقضة بين سلفيّة تقليديّة، وسلفيّة مهجّنة بأفكار إخوانيّة، وسلفيّة متمرّدة، وبين استراتيجية قتال العدوّ البعيد (الولايات المتّحدة) وأولويّة ضرب العدوّ القريب (دول المنطقة).
عندما انطلقت الحرب العالميّة على الإرهاب، أضحى “تنظيم القاعدة” هو الوعاء الجامع لكلّ التيّارات السلفيّة دون تمييز. ولم يطُل الوقت، حتّى خرج التيّار التكفيريّ الأكثر تشدّداً، من رحم “القاعدة”، الذي ضعف في أفغانستان، وتعرّض قادته للقتل والتشريد، ثمّ قوي بسرعة في العراق، بقيادة الأردنيّ أبي مصعب الزرقاوي (قُتل عام 2006)، الذي أنشأ تنظيمه المستقلّ أوّلاً، “جماعة التوحيد والجهاد”، ثمّ بايع “تنظيم القاعدة” عام 2004، ليحمل اسم “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين”.
كانت خطّته الاستفادة من الاسم الرائج، للتوسّع بقوّة، مع العمل بطريقة مختلفة عن التنظيم الأصل. نشبت خلافات بين الأصل والفرع، سجّلتها رسائل متبادلة بين باكستان (ملاذ القيادة المركزيّة) والعراق، حصل عليها الأميركيون ونشروها. وفي هذا المخاض العسير، شهد أحمد الشرع، وكان منضوياً في تنظيم صغير يُدعى “سرايا المجاهدين” في الموصل، سلسلة التحوّلات التنظيميّة والأيديولوجيّة الهائلة، في الساحة السنّيّة العراقيّة، وبروز استقطابات حادّة داخل المقاومة العراقيّة نفسها، بين اتّجاهات مختلفة (وطنيّ بعثيّ من الجيش العراقيّ السابق، وطنيّ إسلاميّ من العشائر، سلفيّ جهاديّ معتدل من تشكيلات السلفيّة المحلّيّة، سلفيّ جهاديّ متشدّد من “القاعدة” ذي التوجّه الأمميّ، وأخيراً سلفيّ جهاديّ متشدّد ومُغالٍ من دولة العراق الإسلاميّة).
بسبب هذه التباينات القويّة داخل المقاومة السنّيّة، نجح الأميركيّون بقيادة ديفيد بترايوس بين عامَي 2006 و2008، في اختراق النسيج العشائريّ السنّيّ، وتجنيد المقاتلين الغاضبين من تصرّفات “الزرقاوي” وخلفائه، فشكّلوا ما سُمّي حينذاك “الصحوات” التي انقلبت على كلّ فصائل المقاومة دون استثناء. كانت هذه انتكاسة كبيرة للمقاومة السنّيّة، والشرع حينذاك معتقَل لدى الأميركيّين (بين 2006 و2011). وهذا هو الدرس الأوّل، الذي سيتعلّمه، وهو خطورة معاداة الحاضنة الشعبيّة.
أمّا الدرس الثاني، الذي لا يقلّ أهميّة، فهو أنّ الجماعات السنّية المقاتلة في ذلك الوقت، كانت بارعة في النزال، وفاشلة في السياسة. تفتقر إلى الرؤية السياسيّة العمليّة والواضحة والقابلة للتحقّق، وكأنّها تقاتل من أجل القتال وحسب. وبالمقابل، يقاتل الجهاديّون الشيعة برعاية إيرانيّة شاملة ويفاوضون. يتخندقون خلف المتاريس، وفي الوقت نفسه، يخوضون المعارك في صناديق الانتخابات. يعتبرون الولايات المتّحدة “الشيطان الأكبر”، ومع ذلك، يتعاملون معها، ويعقدون معها الصفقات تحت الطاولة، وأحياناً كثيرة فوق الطاولة، من دون عوائق أيديولوجيّة.
بهذه البراغماتيّة الكبيرة، كانت التنظيمات السنّيّة الجهاديّة، تقاتل “الشيطان الأكبر”، في أفغانستان وفي العراق، وفي بلدان أخرى عبر العالم، وإيران وأذرعها في المنطقة، تحصد النتائج السياسيّة، وتحصل على السلطة تباعاً، انطلاقاً من كابول فبغداد وصنعاء. وربّما كان هذا هو الدرس الأبلغ الذي تعلّمه أحمد الشرع، حين كان يحاور ويناقش قيادات التنظيمات الجهاديّة السنّيّة في السجون الأميركيّة. وبناء على هذا، وضع رؤيته لسوريا ولم تكن قد وقعت الثورة الشعبية بعد، وكان ما يزال في السجن.
مهارة الإقناع ومرونة العمل
أحمد الشرع بارع في الإقناع، إقناع أعدائه أكثر من إقناع أصدقائه، وتلك مفارقة. وهذه المهارة الخاصّة جعلت ديفيد بترايوس، عدوّه السابق في العراق والخبير في قتال الجماعات الجهاديّة، يتشكّك في كون الجولاني جهاديّاً في الأصل لأنّ من النادر حدوث تحوّل في هذا المجال، وذلك بحسب مقال له في مجلّة The National Interest، تحدّث فيه عن الحوار العلنيّ والمشهود الذي أجراه مع الرئيس الشرع، في مؤتمر جامعة “الكونكوريا” السنويّ حول الأمن والديمقراطيّة، على هامش أعمال الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة بنيويورك في أيلول الماضي.
لقد نجا الشرع من الاستخبارات السوريّة عام 2004، حين أقنع المحقّقين ببراءته، مع أنّه اعتُقل مع خليّة جهاديّة. وحين اعتُقل في العراق عام 2006، أقنع المحقّقين العراقيّين المتعاملين مع الاحتلال الأميركيّ بلهجته العراقيّة المستجدّة بأنّه عراقيّ، لا مقاتل أجنبيّ. وفي السجن أقنع البغداديّ بتأسيس فرع لـ “دولة العراق الإسلاميّة” في سوريا، مع أنّه يعارض توجّهاته، بعد تقديم رؤية مكتوبة، مبنيّة على الدروس المستفادة من التجارب الفاشلة للجهاديّين في العالم، فأسّس “جبهة النصرة”، لكنّه لم يلتزم أوامر البغداديّ. أقنعه بأنّ سوريا مختلفة عن العراق. وعندما توجّس من احتمال انشقاقه، أقنعه بأنّه معه. وعندما أعلن البغداديّ “الدولة الإسلاميّة في العراق والشام”، أي “داعش” اختصاراً، عام 2013، أقنع الجولاني الظواهري (قُتل في كابول عام 2022) بتأييد انشقاقه عن “داعش” وانضمامه إلى “القاعدة
بعد ذلك، أقنع الظواهري بوجوب اندراج “النصرة” في الشأن المحلّيّ السوريّ، وعدم التورّط في الإرهاب العالميّ. ثمّ تمكّن من إقناع أتباعه بالانفصال ظاهريّاً عن “القاعدة”، مستفيداً من الضغوط الشعبيّة والخارجيّة. لكنّه انفصل حقّاً، بمقابل تأسيس وعاء تنظيميّ أوسع، هو “جبهة فتح الشام”، عام 2016. ولمّا كان التحالف الجديد هشّاً، تخلّى عنه لتأسيس “هيئة تحرير الشام” في العام التالي، وهو ما يدلّ على مرونة تنظيميّة غير عاديّة.
حتّى حين كان يخوض معركة توحيد البندقيّة في محافظة إدلب وريفَي حلب وحماة، مع الفصائل المتناسلة بعضها من بعض، استطاع اجتذاب عدد من كوادر الفصائل التي “بغى” عليها، بحسب ما كان يسِمُه به أعداؤه الألدّاء في تلك الفصائل. وأصعب مرحلة عانى منها الجولاني، مطلع عام 2024، هو الانقلاب الغامض حتّى الآن داخل صفوف تنظيمه بإدلب، وسجن كثير من أفراد التنظيم وقياداته، وموت بعضهم في الاعتقال، إذ كان عليه تنظيم حوارات ماراتونيّة مع الوجهاء والأعيان والقادة في إدلب لاحتواء التظاهرات التي نادت بإسقاطه قبل سنة تقريباً من إطلاق عمليّة “ردع العدوان” التي أسقطت بشّار الأسد.


